فكيف والبخاري ـ وهو الذي يعلق الباحث على روايته ــ قد صرح في الموضع الذي روى فيه الرواية بمثل تصريح الإمام الترمذي، فقال في "التاريخ الكبير" (1/ 82):
" إسناده مجهول، لا يعرف سماع بعضه من بعض".
فها هو الإمام البخاري ـ وهو شيخ الترمذي، وعلى يديه تعلم الترمذي، وهو صاحب الحديث الذي يعلق عليه الباحث ـ، يصرح بمثل تصريح الترمذي بأن "إسناده مجهول"، أما أن المتن حسن لما جاءه من شواهد تأخذ بيده وتشد من عضده، فهذا أمر آخر، ولا يستلزم تحسين الإسناد، كما لا يخفى.
ومن العجائب ــ والعجائب جمة ــ أن "أبا الحسن العسقلانى" هذا، لم يوثقه أحد،
ولا حتى ابن حبان، وقد سبق تصريح البخاري والترمذي بجهالته؟!
والأعجب؛ أن الباحث أشار عند ترجمته له إلى ترجمته في "التقريب" و "التهذيب" كلاهما لابن حجر العسقلانى، والناظر في هذين الكتابين لا يجد فيهما أى توثيق، معتبر
أو غير معتبر، بل لا يجد إلا قول الحافظ ابن حجر في "التقريب": "مجهول".
وأما "التهذيب"، فليس فيه سوى أنه يروى عن ابن ركانة، وعنه محمد بن ربيعة!!
وابن حبان نفسه قد صرح في "الثقات" في موضعين بأنه لا يعتمد على هذا الإسناد، وإنه إسناد فيه نظر.
فلما ترجم لابن ركانة، قال (5/ 360):
"يروي عن أبيه في مصارعة النبى صلى الله عليه وسلم أياه ... إلا أني لست بالمعتمد على إسناده "!
فابن حبان رغم أنه وثق ابن ركانة بإدخاله إياه في الثقات، صرح بأن هذا الحديث على وجه الخصوص لا يعتمد على إسناده، فماذا ينفع توثيق ابن حبان له، والحديث ـ الذي هو موضوع البحث ـ قد نفض ابن حبان نفسه يده منه؟!
ولما ترجم ابن حبان لركانة أبيه في الصحابة، قال (3/ 103):
"يقال: إنه صارع النبى صلى الله عليه وسلم، وفى إسناد خبره نظر"!!
هذا؛ وقد ضعف إسناده أيضًا الحافظ ابن السكن، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (3/ 287).
وأيضًا؛ الإمام الذهبي؛ فقد ذكر هذا الحديث في "الميزان"، في ترجمة ابن ركانة،
ثم قال (3/ 546):
"لم يصح حديثه، انفرد به أبو الحسن، شيخ لا يدرى من هو".
فها هو إسناد الحديث، وها هم رواته، اتفق المحدثون على أن الإسناد ليس بالقائم، ولا بالمعتمد عليه، واتفقوا أيضًا على جهالة أحد رواته، وهو "أبو الحسن العسقلانى"، والأكثر على جهالة "ابن ركانة" أيضًا، وابن حبان رغم أنه تساهل فوثقه، إلا أنه لم يتساهل في إسناد روايته، وصرح بأنه إسناد غير مقبول عنده، ولا هو بالمعتمد؛ فأين هذا كله مما صنعه الباحث وادعاه من قبله؟!
والحديث الثانى، وهو برقم (2622) عنده:
وهو حديث: أبي عامر العقدي، عن سليمان بن سفيان المدني، عن بلال بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، عن جده، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربى وربك الله".
انشغل الباحث بترجمة بلال بن يحيى بن طلحة ومن فوقه في الإسناد، ثم حكى عن الترمذي أنه حسنه، وإنما قال الترمذي: "حسن غريب"، فإما أنه حسنه لشواهده، أو أنه أراد بالتحسين الحسين المعنوى فقط.
ومع ذلك؛ فقد غفل الباحث عن علة الحديث الحقيقية، وهى تفرد سليمان بن سفيان هذا به، وهذا الرجل اتفق أهل العلم على تضعيفه، وصرح بعضهم بأن حديثه هذا على
وجه الخصوص حديث منكر.
وهذه أقوال أهل العلم فيه، وفى حديثه هذا:
قال عباس الدورى، عن يحيى بن معين (1102): "يروي عنه أبو عامر العقدي حديث "الهلال"، وليس بثقة".
وقال ابن الجنيد (479): "سمعت يحيى بن معين يقول: سليمان بن سفيان المديني الذي روى عنه أبو عامر العقدي: حديث طلحة، عن النبى صلى الله عليه وسلم في رؤية الهلال؛
ليس بشئ".
وقال ابن أبي خثيمة، عن يحيى بن معين: "ليس بشئ".
وحديث الهلال، هو حديثنا هذا، فهذا إنكار من ابن معين لهذا الحديث،
وتضعيف لراويه.
وقال علي بن المديني: "روى أحاديث منكرة".
وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، يروي عن الثقات أحاديث مناكير".
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال "منكر الحديث، روى عن عبد الله
بن دينار ثلاثة أحاديث، كلها ـ يعني: مناكير ـ، وإذا روى المجهول المنكر عن المعروفين فهو كذا" ــ كلمة ذكرها.
وقال النسائي والدولابي: "ليس بثقة".
وقال يعقوب بن شيبة: "له أحاديث مناكير".
¥