"وقد روى مسلم بن خالد الزنجي هذا الحديث عن هشام بن عروة. ورواهُ جريرُ عن هشام أيضًا. وحديث جرير يقال: تدليس، دلس فيه جرير؛ لم يسمعه من هشام بن عروة".
وفسر ذلك في "العلل" فحكى عن البخاري، أنه قال: "قال محمد بن حميد: إن جريرًا روى هذا في المناظرة، ولا يدرون له فيه سماعًا".
ومن ذلك أيضًا: أن أبا حاتم الرازي أعل حديثًا بتدليس الليث بن سعد فيه، فقال:
"… ولم يذكر أيضًا الليث في هذا الحديث خبرًا، ويحتمل أن يكون سمعه من غير ثقة ودلسه".
وقال أبو حاتم أيضًا في حديث آخر:
"لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة عن ابن أبي عروبة، لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث [الخبر]، وهذا أيضًا مما يوهنه".
فتعقبه بعض المعاصرين بأن ابن عيينة أحد جبال الحفظ، ولا يضره كون الحديث ليس في مصنفات ابن أبي عروبة، وبأنه إن لم يصرح بالسماع لا يضره؛ لأنه لا يدلس إلا عن ثقة، كما قال ابن حبان وغيره.
وهذا التعقب؛ ليس بشيء، وهو يدل على عدم فهم مراد الإمام من إعلاله.
فهب أن سفيان لم يخطئ في هذا الحديث عن ابن أبي عروبة، لكن ما دمنا قد تحققنا أن الحديث ليس في مصنفات ابن أبي عروبة، فهو إذا لم يحدث به من كتاب، وإنما حدث به حفظًا، وابن أبي عروبة كان قد اختلط كما هو معلوم، وابن عيينة لم يذكروا أنه ممن أخذ عنه قبل الاختلاط فالظاهر أنه أخذ عنه بعده، وعليه يكون ابن أبي عروبة قد حدث ابن عيينة بهذا الحديث ــ إن كان ابن عيينة حفظه ــ في حال اختلاطه، من حفظه وليس من كتابه، وهذا وحده يكفي في الطعن في الحديث.
ثم إنه ليس هناك تعارض بين قول أبي حاتم الرازى وقول ابن حبان البستي؛
فإن قول البستي إنما هو حكم عام فيما يدلسه ابن عيينة بأنه لا يكون إلا عن ثقة، بينما قول أبي حاتم إنما هو حكم خاص بهذا الحديث، ولا يعارض الحكم الخاص بالحكم العام، بل يحمل العام على الخاص.
فمن أراد أن يدفع تلك العلة الخاصة، لا يكفيه أن يأتى بالحكم العام، لأن أبا حاتم
ـ وأمثاله من النقاد ـ لا تخفى عليه القاعدة العامة، بل لابد حينئذ من الإتيان بدليل خاص تدفع به تلك العلة الخاصة، وذلك بأن يأتي بتصريح بالسماع أو ما يدل عليه في موضع آخر، شريطة أن يكون ذلك محفوظًا عن ابن عيينة، وليس شاذًا.
والقول في ذلك كالقول في أخطاء الثقات، فإن الثقة إذا وهمه إمام حافظ ناقد في حديث معين، وأعل الحديث بتفرده به، لا يصلح لمن دونه أن يدفع ذلك الإعلال بمجرد أن هذا الراوي ثقة، وأن تفرده مقبول في الأصل.
فإن ثقة هذا الراوي لا تخفى على مثل هذا الإمام، بل قد يكون هو نفسه يوثقه،
ولكنه حيث وثقه إنما حكم عليه حكمًا عامًا، وحيث خطأه في ذلك الحديث المعين فإنما هذا حكم خاص يتعلق بهذا الحديث المعين، فلا يدفع الحكم الخاص بالحكم العام، بل يحمل العام على الخاص فيقال هو ثقة إلا أنه أخطأ في هذا الحديث.
ومن أراد أن يدفع خطأه في هذا الحديث المعين يلزمه أن يأتي بدليل خاص يدل على ذلك كأن يأتي بمتابعة كافية للدلالة على براءته من عهدة الحديث والله أعلم.
وربما يطلقون بعض الاصطلاحات على غير معناها المتقرر والمتعارف عليه؛ كمثل مصطلح "الحسن"، فإن بعض أهل العلم يستعمله في موضع "الغريب" أو "المنكر"، على عكس معناه المتقرر، والذي يقتضي ثبوت الحديث.
وقد قال إبراهيم بن يزيد النخعي "كانوا يكرهون إذا اجتمعوا، أن يخرج الرجل أحسن حديثه، أو أحسن ما عنده".
قال الحافظ الخطيب البغدادي شارحًا له: "عنى إبراهيم بالأحسن الغريب، لأن الغريب غير المألوف يستحسن أكثر من المشهور المعروف، وأصحاب الحديث يعبرون عن المناكير بهذه العبارة".
ومن ذلك: مصطلح "الاعتبار"؛ فإن "الاعتبار" عند أئمة الحديث؛ له معنيان:
المعنى الأول: أنهم يطلقون لفظ "الاعتبار" بمعنى الاستشهاد والاستئناس والاعتضاد والتقوية.
وهذا هو المعنى الذي درج عليه العلماء المتأخرون، بحيث إنهم لا يكادون يستعملون "الاعتبار" إلا على هذا المعنى، فيقولون: "هذا الحديث يصلح للاعتبار"، أو: "هذا الإسناد يصلح للاعتبار" أو: "هذا الراوي يصلح حديثه للاعتبار" يقصدون: أنه ليس ضعفه شديدًا، بل ضعفه ضعف محتمل، يمكن أن يتقوى بغيره أو يستشهد له بما رواه غيره ممن هو مثله أو أقوى منه.
¥