ثالثا: موضوع الساعة وما يتبعها من أشراط أمر سري، لا من حيث ما يحدث فيها فإنَّ الشرع المطهر أخبرنا بأشراط الساعة وبأهوالها، بحيث أننا نستطيع أن نرسم صورة لما يحدث تماما، لأن في هذا الاخبار فوائد عظيمة باعثة على العمل، ولكن السري في الموضوع هو الوقت والتاريخ، وقد بلغت سريته درجة عظيمة، فكان فيما أوحى الله إلى عبده ونبيه موسى عليه السلام: إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.
فما الذي كاد يخفيه الرب سبحانه وتعالى إلا وقتها وتاريخها، لأنه بين في كتابه وعلى لسان نبيه تفاصيل كثير من ما يحدث في الساعة وقبلها، قال ابن جرير: أكاد أخفيها من نفسي لئلا يطلع عليها أحد، وبذلك جاءت تأويل الآية عن أهل العلم، أهـ
فيا للسرية البالغة التي كاد الله عز وجل أن يخفي موعد قيامها عن نفسه، ثم يأتي متكهن بعد ذلك ليهتك أعظم سر في الدين! سبحانك، هذا بهتان عظيم.
فالمسألة إذا فيها دائرتان:
الأولى: معلومة بينة، وليس في خوضها على بينة ملامة، وهي أخبار هذه الغيبيات وما يحدث فيها من أهوال.
والثانية: حمى رباني، لا يجوز لأي مخلوق أن يهتك حرمتها، وهي وقت هذه الغيبيات وتحديد تاريخها.
رابعا: مفاتيح الغيب خمسة، كما ثبت في الحديث، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غد وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير.
والمقصود من علم الساعة وقتها، والكلام على أشراط الساعة كالكلام عنها، لأنها جزء منها، ومتى أحاطوا العلم بالأجزاء يوشك أن يعلم الأصل الذي هو قيام الساعة الكبرى، وهذا أمر يأباه الله ورسوله والمؤمنون.
2 - ألا إن الساعة قريب:
في القرآن الكريم حقيقة واحدة عن تاريخ الساعة، وهي كونها قريبة، ولكن هذه الحقيقة لا تعني فتح باب التخرص على الله بغير علم، قال تعالى (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا)
وفي آية الشورى (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، وما يدريك لعل الساعة قريب)، فهي قريبة الوقوع جدا، وهي أقرب إلى هذه الأمة بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى، وفي لفظ:إن كادت لتسبقني) وفي لفظ لمسلم عن شعبة قال سمعت قتادة حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين، قال شعبة: وسمعت قتادة يقول في قصصه: كفضل إحداهما على الأخرى، فلا أدرى أذكره عن أنس أو قاله قتادة.
وهذا صريح في إفادة قرب الساعة، وثمت آثار أخرى صحيحة قرّب فيها النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بالمثل والتشبيه، كقوله: إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، رواه الطبراني عن ابن عمر، و عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شيء يسير فقال والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيرا، رواه البزار، ونحو ذلك من الآثار التي تفيد قرب قيام الساعة، و تفسر قول الله عز وجل (اقتربت الساعة وانشق القمر).
ولكن ما حقيقة هذا القرب؟ وهل يمكن أن يستخلص منه التاريخ الحاسم لبداية النهاية؟ إنه قرب نسبي، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أقرب الأنبياء إلى الساعة لأنه خاتم الأنبياء، وأمته أيضا أقرب الأمم إلى الساعة لأنها آخر الأمم، وإلا فمن حيثية أخرى – وهي قصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة - فإن آدم ومن بعده كلهم قريبون من الساعة، فإنَّ الدنيا مهما طالت فلن تعدو أن تكون أياما قلائل من أيام الآخرة.
¥