فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
إن كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي من أعظم شروح الموطأ الإمام ملك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، وهو كتاب فريد في بابه، وموسوعة في فقه أحاديث الأحكام، اقتصر فيه مؤلفه على ما أورده مالك في الموطأ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم دون ما فيه من آراء مالك، وآثار الصحابة والتابعين، وقد قضى في تأليفه ثلاثين سنة، وفي ذلك يقول:
سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة وصيقل ذهني والمفرج عن همي
بسطت لكم فيه كلام نبيكم بما في معانيه من الفقه والعلم
وفيه من الآداب ما يهتدى به إلى البر والتقوى وينهى عن الظلم (1)
وقد احتفل به جهابذة العلماء منذ القديم، وأكثروا النقل منه، وعرفوا قدره حتى قال فيه ابن حزم الأندلسي:» التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف ابن عبد البر ـ وهو الآن بعد في الحياة ولم يبلغ سن الشيخوخة ـ وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا فكيف أحسن منه «(2)
وقد بذل أبو عمر بن عبد البر جهدا كبيرا في وصل المنقطع، وتقوية المتصل، ولم يفته أن يتكلم على فقه الأحاديث، ومذاهب الصحابة والتابعين، وخاصة مذاهب فقهاء الأمصار وأصحاب مالك.
ولما كان التمهيد مرتبا على أسماء شيوخ الإمام مالك كان من الصعب الوصول إلى أحاديث الموطأ المشروحة فيه فضلا عن الوصول إلى آراء فقهاء الأمصار، بحيث يصعب الأمر على المتخصص فضلا عن غيره.
فقد يذكر ابن عبد البر المسألة في مواضع عدة من الكتاب، وفي بعض الأحيان يذكرها مرات في المجلد الواحد، فقد ذكر مثلا تطيب المحرم في: (2/ 254). (10/ 16). (15/ 123). (19/ 302 ـ 309) وحكم إجابة الوليمة في: (1/ 272، 273). (2/ 189). (10/ 187 ـ 179). (14/ 111، 113).
فإذا أراد الباحث الإطلاع على مسألة فقهية فعليه أن يكون ملما بأحاديث الموطأ التي تتكلم عن المسألة التي يبحث عنها، ثم بعد ذلك يبحث عن مواضع الأحاديث في التمهيد، ولا يتم له ذلك إلا إذا عرف شيخ الإمام مالك في الحديث الذي يبحث عنه. وإذا كان الحديث في الموطأ مذكورا من رواية شيخين فعليه أن يرجع إلى التمهيد في موضعين على الأقل، وإذا كان للمسألة أكثر من حديث فعليه أن يرجع إلى كل الأحاديث، وفي ذلك مشقة لا تخفى، وقد لا يجد مراده؛ لأن المؤلف لا يتقيد بذكر الأحكام الفقهية على ما ذكره الإمام مالك في تراجمه للأحاديث، بل يتكلم عن فقه الحديث، وعن دلالته سواء كانت واضحة أو خفية في أي موضع ينشط فيه لسرد مذاهب الفقهاء وحججهم، وقد يترك ذلك في بعض الأحاديث التي تبدو أنها أقرب للمسألة الفقهية، ويختار لها موضعا آخرا أقل وضوحا.
فقد يظن البعض أن مسألة أفضل الأضاحي مثلا ذكرها المؤلف عندما شرح أحاديث كتاب الضحايا وهو ظن متبادر إلى الذهن، فإذا تتبع أحاديث كتاب الضحايا في التمهيد فلا يجد لهذه المسألة ذكرا؛ لأن المؤلف ذكر أفضل الضحايا عندما شرح حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام طويت الصحف وحضرت الملائكة يسمعون الذكر. «وقد ذكر مالك هذا الحديث في كتاب الجمعة: باب العمل في غسل الجمعة. ولم يحل ابن عبد البر على هذا الحديث عندما تكلم على أحاديث الضحايا كما هي عادته، والمؤلف معذور؛ لأن طريقة عصره لا تخرج عن ذلك، بالإضافة إلى أنه يتعامل مع الأسانيد التي لا ينتظم فيها الموضوع الفقهي، ولا يتعامل مع الموضوعات المذكورة في الموطأ بسبب ترتيب أحاديث مالك على أسماء شيوخه.
¥