تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

3 - إن التناسب يجعل الكلام آخذاً بعضه بأعناق بعض؛ بحيث لا يختلف ولا يضطرب ولا يتضادّ ولا يتعارض ولا يتفاوت بشكل من الأشكال؛ فيقوى بذلك الارتباط ويصير حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء، وفي ذلك من عظمة الكلام ما لا يخفى.

4 - إن الصفة الجوهرية التي حولها حام دارسو الإعجاز - على اختلاف مدارسهم وتعدّد رؤاهم وتباين أبعادهم - هي مسألة التناسب والنظم والضمّ والانسجام والتآلف؛ ويذهب الجرجاني إلى أن من أهم وجوه الإعجاز والمزيّة موقع الأجزاء بعضها من بعض؛ واستعمال بعضها مع بعض؛ ويقول الرازي: "إن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه - فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته " وهذه الصفة الجوهرية في القرآن لا تكاد تخفى على كل من تدبّره ولو تدبّراً يسيراً؛ يقول سيد قطب: "والتناسق المطلق الشامل هو الظاهرة التي لا يخطئها كل من تدبّر القرآن أبداً، ومستوياتها ومجالاتها مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها ... تتجلّى هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف أو ظاهرة التناسق - ابتداء من التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية ... والكمال في الأداء بلا تغيّر ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى ... وتتجلّى هذه الظاهرة بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله " ولا يقصر سيد قطب التناسب المطلق والتناسق الشامل على الكتاب العزيز فحسب؛ بل يجعله أمراً منهجياً ينتظم الدين وحقائقه كلها؛ يقول: "هنالك التناسق الشامل العجيب في طبيعة الدين وحقائقه ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته، إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات؛ إنما يبدو تصميماً واحداً متداخلاً متراكباً متعاشقاً ".

هذا وقد تناولت كتب علوم القرآن تاريخ هذا العلم بشكل غريب؛ إذ حصرت نشأته وبداية التصنيف فيه في فترات متأخرة، وتشهد كتب البلاغة والإعجاز القرآني بخلاف ذلك , ولعل سبب هذا الإغفال أن كتب علوم القرآن قد حصرت هذا التناسب في نطاق شديد الضيق لا يتناول الأبعاد الأخرى منه، وهذا أمر منهجي لا يمكن تجاوزه. وقد ذكرت تلك الكتب أن هذا العلم الجليل قد نشأ على يد الشيخ أبي بكر النيسابوري ت 324هـ؛ يقول أبو الحسن الشهرباني: "أول من أظهر ببغداد علم المناسبة – ولم نكن سمعناه من غيره – هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول – وهو على الكرسي إذا قرئت عليه آية -: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة "كما ذكرت تلك الكتب أن أول من أفرد هذا العلم بالتصنيف أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي ت 708 هـ وهو صاحب "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن ". وذلك كله فيه نظر؛ للأسباب الآتية:

1 - إن الصحابة وسلف الأمة بما لهم من فطرة سليمة قد كانوا يدركون أسرار هذا العلم ولطائفه؛ يقول البقاعي: "وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا بما في سليقتهم من أفانين العربية ودقيق مناهج الفكر البشرية ولطيف النوازع العقلية، ثم تناقص هذا العلم حتى انعجم على الناس إلى حد الغرابة كغيره من الفنون " ثم يضرب البقاعي لذلك أمثلة من نماذج الصحابة، ويبدو أن أبا بكر النيساوبوري – الذي يقال أنه أول من تكلم في هذا العلم - لم يتأت له هذا العلم من جهة الابتكار أو الاكتشاف؛ وإنما وجد نماذج اقتدى بها ونسج على منوالها؛ إذ "كان أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحابة "؛ يقول عنه الدارقطني: "ما رأيت أحفظ من أبي بكر النيسابوري "ويقول عنه أيضاً: "لم نر مثله في مشايخنا ولم نر أحفظ منه للأسانيد والمتون " وقد هاجر النيسابوري - رحمه الله - في طلب العلم إلى العراق ومصر والشام و الحجاز، ولا شك أن لحفظ النيسابوري وجمعه للعلم من البلدان المختلفة أثر واضح في إظهار هذا العلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير