تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

- والأمر الثاني فيما يتعلق بالقسم بالواو أن المقسم به قد يكون عظيما وقد لا يكون، فهذا الأمر لا يهمنا بل الذي يهمنا لماذا اختار النص القسم بهذا ولم يختر القسم بذاك؟ وبكلمات أخرى: لماذا اختار النص هنا القسم بالضحى والقسم بالليل إذا سجى ولم يختر القسم بالصبح أو بالليل إذا يسر؟ والجواب لدينا بيِّن وواضح: كل قسم يناسب سياقه؛ فهنا في سورة الضحى مما يتلاءم مع الحنو ولمسة الحنان والإشفاق: الضحى الآن الرقراق الوديع الذي لا يوجد فيه وهج ولا برودة، ومما يتلاءم مع المناخ أن يكون الليل ساجيا بمعنى هادئا لأنه أكثر التصاقا بالطمأنينة وبالحنان بخلاف نص آخر اختار صفة أخرى لليل هي الحركة والفاعلية والنشاط "وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ".

ثالثا: الذِّكر والحذْف –

وسنذهب هنا إلى ما ذهب إليه عبدالقاهر في أن الذكر والحذف قضية أو مُسَلَّمَة لها وجهان:

الأول: شعوري أو نفسي.

الثاني: فني أو جمالي.

وبكلمات أخرى: إن اختلاف التركيب يتبعه اختلاف في الدلالة، وسنأخذ مثالين على ذلك:

- المثال الأول: في قوله تعالى: "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" لماذا ذكر المفعول به مع الفعل "وَدَّع" وحذف المفعول به مع الفعل "قَلَى"؟ أصل العبارة أن يقول: ما ودَّعَك ربك وما قَلاك، معظم الدارسين على أن الحذف هنا جاء لأمر شكلي هو تناسب فواصل الآيات؛ سَجَى .. قَلَى .. ، وعندنا أن الأمر يتعلق بالتجربة الشعورية وليس بالتعبير الجمالي فحسب، نشرح ذلك فنقول: في ضوء لمسة الحنان لإطار النص النفسي كله لا يمكن للقرآن أن ينسب البعض إلى الله، ولا يمكن أن يقطع الصلة بين محمد وربه، فلو قال: لَقَلاك؛ فمعنى ذلك أن ثمة صلة مقطوعة بين الكاف والفعل وأن التواجه موجود بين محمد وربه، بحذف الكاف أي بحذف المفعول به انتفى الانقطاع وبقيت الصلة دائمة بين محمد عليه الصلاة والسلام والإله. وهذه الصورة الشعورية إنما هي عكس الواقع النفسي الذي كان يحياه الرسول ونفي لإمكان التباعد بين الرب والعبد، بل تحقيق للصلة الدائمة بينهما، فإذا ما أضفنا إلى ذلك الناحية الشكلية .. الإيقاعية .. الجمالية في تناسب رؤوس الآي أدركنا مبلغ الإعجاز في هذا الذكر والحذف معا؛ الذكر في: ودَّعك، والحذف في: قَلَى، وسيتضح الأمر أكثر حين نشرح معاني المفردات بعدها.

- المثال الثاني: آخر السورة "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" لماذا لم يقل: وأما بنعمة ربك فاجهر أو فاصدع؟ الإجابة مرتبطة بدلالة النعمة التي نريد أن نثبتها، وبدلالة البِنْيَة الفنية للنص الذي ينتهي بقفلة المغايرة، النعمة هنا هي الإسلام، والأمر هنا هو النشر والانتشار والذيوع أو الأمر بنشر هذا الدين وإذاعته، والتحول الذي طرأ على المفردة تحول جوهري لأن الإسلام هو نهاية الديانات وخاتمتها، وبهذه الصورة التحليلية نثبت أمرين أيضا .. أولهما شعوري، والآخر فني؛ الشعوري هو الإسلام بتمامه وكماله وأن النعمة التي قدمها الله للبشرية، وبأن هذه النعمة هي آخر الديانات فعلينا أن نلتزم بها وأن ننشرها، وكما يفعل المسرحيون على سبيل المجاز حين ينهون مسرحيتهم بالستارة، كذلك تقفل هنا الديانات وتختتم بالإسلام باعتباره خاتمتها وحصيلتها معا.

رابعا: الألفاظ المناسبة للنص –

قلنا من قبل أن النص القرآني لا يستعمل المترادفات البتة، بل يستعمل المفردة المناسبة في المكان المناسب، وسنحاول أن نتعرف من خلال وقفة قصيرة عند بعض هذه الألفاظ بربطها أولا بالإطار للنص، وبربطها ثانيا بتركيبات النص، ولنأخذ مثالين على ذلك.

المثال الأول: في بداية السورة "وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى" لم يختر النص آنًا آخر من آنات النهار سوى الضحى؛ لأنه ملائم للإطار الذي حددناه ووجدناه يقوم على الوداعة والشفافية وأظن أن في لفظه الأنيق وفي وضاءته "الضُّحَى" وفي دلالته أكثر تناسقا مع إطار النص من الظهيرة مثلا أو من الفجر، وكذلك لم يقل النص: والليل، ويصمت، بل اختار من الليل سُجوَهُ أي هدوءَه وهذا الهدوء قريب هو الآخر من إطار النص ومتفق معه مندمج فيه ومتناغم.

فإذا ما انتقلنا إلى نهاية السورة لوجدنا أن النص قد استخدم مفردة "فَحَدِّثْ" وهذه المفردة ملائمة لدلالة النعمة أولا وملائمة لسياق النص ثانيا، إن الانزياح الذي تم في هذه المفردة من كلمة أخرى مثل: فاجهر يبين المغايرة في طبيعة القفلة الختامية للنص وأنها أفضل ما تكون، سنفسر النعمة بالإسلام، والحديث عنه بمعنى نشره وذيوعه أقرب إلى الدلالة من كلمة أخرى من مثل: فاجهر، الانتشار والذيوع هما أمران طولِبَ بهما النبي صلى الله عليه وسلم طوال النص.

ومن هنا قلنا ونقول أن المفردات القرآنية هي أفضل ما تكون في إمكانياتها المناسبة؛ لأنها تعبر عن دلالاتها وعن سياقها.

خامسا: سياق النص –

ولو حاولنا الآن أن نجمع كل الجزئيات التي تحدثنا عنها " المفردة والصورة والحذف والإطار " لتبين لنا أو لارتسم سياق يختلف عن سياق الصورة السابقة التي درسناها "الهُمَزَة"، صحيح أن السياق هنا يُنَوه في نغماته على قلب رسول الله فيذكره فيما مضى ويعرضه على ما هو آت .. يذكره عندما كان يتيما فآواه الله، وعندما كان عائلا فأغناه الله، وإن عليه ألا يقهر اليتيم وألا ينهر السائل؛ وهذا الحض ليس للرسول فحسب، وإنما هو للمسلم في كل زمان وفي كل مكان.

وإذا ما كانت البلاغة كما رأيناها وحددناها هي مراعاة المقام فإن النص القرآني يحقق شروط هذه البلاغة في أعلى مستوياتها، ولم لا نقول إن شروط البلاغة التي وصفها البلاغيون العرب كانت للنص الإنساني وأن شروط الإعجاز كانت فقط للنص القرآني وشتان شتان ما بين البشر وخالق البشر، ما بين بلاغة البشر وإعجاز الخالق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير