فلنر الآن إلى النص كيف بدأ من خلال الاسم والفعل: يبدأ النص بالاسم ثلاث مرات " وَيْلٌ .. هُمَزَةٍ .. لُّمَزَةٍ " لم يقل: ويل لكل من يهمز ويلمزُ بالفعل؛ لأنه يريد التوصيف .. النعت الساكن والثابت، فهذا الرجل متهم طوال وقته بالغيبة والنميمة والتنابز والألقاب، فويلٌ له وثبورٌ، وما كانت هذه الصفات متحركة حتى يعتمد الفعل بل هي كانت صفات ثابتة، ولكنه حين انتقل بعد ذلك إلى دلالةٍ أخرى استعمل الفعل فقال: " جَمَعَ .. عَدَّدَ" ولم يقل: الجامع والمعدِّد؛ لأن جمع المال لا ينتهي ولا يتم دفعة واحدة وبالتالي يصبح صفة مكتملة بل هو كل يوم .. كل لحظة .. كل آن يجمع ويعدِّد وليس لجشعه قرار، ثم يستمر النص باستعمال الخبر الفعلي والخبر الإنشائي فيقول: "يَحْسَبُ .. أَخْلَدَهُ"، ويقول: "َيُنبَذَنَّ" لأن الخلود استمرار، ولأن النبذ المهين تردي متكرر، ثم قال: "الْحُطَمَةِ" باسم النعت كما قال "نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ" للدلالة على صفتين ثابتتين هما الحُطَمة والنار التي تتقدُ.
أما حين أراد التعبير عن أن هذه النار مطلعة على دواخل النفوس رجع إلى الفعل فقال: "تَطَّلِعُ"؛ لأن الاطلاع ازدياد ونمو وحركة هي في كل لحظة تكشف وتظهر ولا تظهر مرة واحدة، وحين أراد التعبير عن الإغلاق المحكم رجع إلى الاسم والنعت والصفة الثابتة فقال: "مُّؤْصَدَةٌ" كما قال: "عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" لأنها محكمة الإغلاق على الدوام مرة واحدة، وهكذا تتجاوب الأفعال والأسماء وتتبدل مواضعها وأمكنتها، ولكنها في النهاية تنتهي إلى كينونة واحدة أو سياق واحد يقوم على هذه الثنائية المتقابلة والمتعاضدة في آن .. ثنائية الاسم والفعل أو ثنائية الثبات والحركة، ولكل منهما مكانٌ وموضع.
ثالثا: التعريف والتنكير: -
التعريف والتنكير ثنائية معروفة، فلكِ أن تُنَكِّري الاسم أو تُعَرِّفيه ولكن وفق شروط ووفق النسق وموضعية المفردة في النسق، وإذا كان التعريف في اللغة يدل على التخصيص من خلال العهد أو الجنس فإن التنكير في اللغة يدل على ثلاث ثنائيات متقابلة:
الثنائية الأولى: التعميم والتخصيص.
الثنائية الثانية: القلة والكثرة.
الثنائية الثالثة: التفخيم والتحقير.
وكل استعمال من هذه الاستعمالات إنما يأتي ويوظف لخدمة دلالية يحددها السياق، فلننعم النظر في تعريف بعض المفردات وتنكيرها .. وكيف وردت .. ولماذا وردت؛ في الآية الأولى جاءت ثلاث مفردات مُنَكَّرَة "وَيْلٌ .. هُمَزَةٍ .. لُّمَزَةٍ "، ولم يقل: الويل .. الهُمَزة .. اللُّمَزة، لماذا؟ لسبب بسيط .. إنه يريد أن يخرج الخاص إلى العام صفة أو نعتًا ومكانًا، فـ "وَيْلٌ" هنا أشد إعجازا من الويل، لقد فسرها بعض القدماء بأنها مكانٌ في جهنم تتجمع فيه أصدية أهل النار وقيحهم، ولكننا نؤثِر بالويل هنا أن نفسره بعموم الثبور والهلاك .. إنه نوعٌ من الوعيد والترهيب لا حدود لهُ، كذلك نفعل مع الهُمَزة واللُّمَزة سواءٌ نزلت هذه السورة في شخص محدَّد أو لم تنزل؛ فالسبب خاص والدلالة عامة، يوجه النص أنظارنا ليس إلى المغيرة وإنما إلى كل إنسان مكي في مجتمع آثم يتصف بهذه الصفات؛ الهمز واللمز وجمع المال والتكثر به، كما ينطبق على كل إنسان في كل زمان ومكان، ومن هنا نفهم أيضا التنكير في لفظ "مَالاً" بقوله "الَّذِي جَمَعَ مَالاً"؛ لأن التنكير هنا أدل على الكثرة والرحابة وعلى الفضاء المفتوح، أما عندما أراد أن يخصص فاستعمل عكس ذلك التعريف في "الْحُطَمَة"، و "نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ"؛ لأنهما دلالتان على محدَّد .. هذه النار المشتعلة التي هي نار الله، ولم ترد الآية إلا هنا مرة واحدة؛ وهي نسبة النار إلى الله تعالى وإضافتها له.
رابعا: استعمال الألفاظ المناسبة في الأمكنة المناسبة: -
في هذا النص الكريم كمثل سائر النصوص نلغي نظرية الترادف؛ أي إمكانية إحلال لفظ مكان لفظ كما فعل من قبلنا ابن تيمية، ونفعل مثلهُ الآن، ولا أدل على ذلك من كلمتين هما: "الْحُطَمَة" و "الْأَفْئِدَةِ"، لماذا لم يقل النص: كلا لينبذن في النار أو جهنم، وإنما قال: "الْحُطَمَةِ"؟ لأن هذه النار تحطم وتهشم وتمزق وتلاشي .. وكلها معاني تتسق مع إطار التهديد والوعيد، وكذلك قال: "الْأَفْئِدَةِ" ولم يقل: القلوب لسبب بسيط؛ إن النص القرآني يفرق في استعمالاته بين القلب وبين الفؤاد , فالقلب هو المضغة المادية .. هذه الجارحة أو العضو المؤلف من لحم ودم، أما الفؤاد حسب الاستعمال القرآني فهو شيء مغاير .. إنه موطن الشعور والإحساس والعاطفة والتنبه .. إنه الوعاء الباطني أو الداخلي للنفس، ومن هنا كانت النار تكشف هذا الوعاء أي تظهر الأسرار الداخلية وتذيعها وتنشرها.
خامسا: النسق ووظائف التعبير: -
هذه الصورة إطار واحد .. نسق واحد من المبتدَا إلى المنتهَى .. نسق الوعيد والترهيب والتحذير لكل الصفات الجاهلية، ومن يحملها أو يتمثلها من الهمز واللمز .. من الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب وجمع المال وما يؤول إليه يوم القيامة في نار الله الموقدة التي تكشف أسراره ويُحكم إغلاقها عليه، وكأن كل مفردة إخبارية أو إنشائية من فعل أو اسم .. من تنكير أو تعريف؛ إنما أتت في موضع سياقها لتحقق وظيفتها التعبيرية والتأثيرية وتتناسب مع حركة النفس الإنسانية.
أليست البلاغة العربية في قمة تعريفها هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟ أوَلم يحقق هذا النص ما طمحت إليه البلاغة بأرقى صورها وأكثرها إعجازًا! اللهم نعم.