فما تقول لهذا؟ وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه وجحود تجويده؟
وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل , لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني -وهو اليوم حي يرزق- وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
وُقِيتَ الردى وصروف العلل ... ولا عرفت قدماك الزلل
شكا المرضَ المجدُ لما مرض ... ت فلما نهضت سليماً أبَل
لك الذنب لا عُتبَ إلا عليك ... لماذا أكلت طعام السَّفَل
طعامٌ يُسوَّى ببتع النبيذ ... ويُصلحُ من خِدرِ ذاكَ العمل
وأنشدني له في شاعر -هو اليوم هناك- يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفةً وافقت الموصوف:
وأصفر اللون أزرق الحدقه ... في كل ما يدعيه غيرُ ثقة
كأنه مالك الحزين إذا ... هم برزق وقد لوى عنقه
إن قمت في هجوه بقافيةٍ ... فكل شعرٍ أقوله صدقه
وأنشدني عبد الله بن شاذان القاري ليوسف بن حمويه من أهل قزوين , ويعرف بابن المنادى:
إذا ما جئت أحمد مستميحاً ... فلا يغررك منظره الأنيقُ
له لطفُ وليس لديه عرفٌ ... كبارقةٍ تروق ولا تُريقُ
فما يخشى العدوُّ له وعيداً ... كما بالوعد لا يثق الصديقُ
وليوسف محاسن كثيرة، وهو القائل -ولعلك سمعت به-:
حجُّ مثلي زيارَةُ الخمَّار ... واقتنائي العقارَ شربُ العُقار
ووقاري إذا توقَّر ذو الشي ... بة وسطَ النَّديِّ تركُ الوقار
ما أبالي إذا المُدامَةُ دامت ... عذلُ ناهٍ ولا شناعةُ جارِ
رُبَّ ليلٍ كأنه فرعُ ليلى ... ما به كوكبٌ يلوح لساري
قد طويناه فوق خَشْفٍ كحيلٍ ... أحور الطرف فاترٍ سَحَّار
وعكفنا على المُدامَة فيه ... فرأينا النهار في الظهر جاري
وهي مليحة كما ترى، وفي ذكرها كلها تطويل، والإيجاز أمثل، وما أحسبك ترى بتدوين هذا وما أشبهه بأساً.
ومَدَحَ رجلٌ بعضَ أمراء البصرة ثم قال بعد ذلك -وقد رأى توانيا في أمره- قصيدةً يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:
جَوَّدتَ شعرك في الأم ... ير فكيف أمرك؟ قلت فاتِر
فكيف تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:
سد الطريق على الزما ... ن وقام في وجه القطوب
كما أنشدتني لبعض شعراء الموصل:
فديتُك ما شبت عن كبرةٍ ... وهذي سِنِيَّ وهذا الحساب
ولكن هُجرتُ فحلَّ المشيبُ ... ولو قد وُصِلتُ لعاد الشباب
فلم لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس ومردة العالم في الشعر؟
وأنشدني عبد الله المغلسي المراغي لنفسه:
غداة تولَّت عيسُهم فترحلوا ... بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مقلتي أدَّت حقوق ودادهم ... ولا أنا عن عيني بذاك رضيتُ
وأنشدني أحمد بن بندار لهذا الذي قدمتُ ذكره , -وهو اليوم حتى يرزق-:
زارني في الدجى فنمَّ عليه ... طِيبُ أردانه لدى الرُّقباءِ
والثريا كأنها كفُّ خُودٍ ... أُبْرِزت من غلالةٍ زرقاء
وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديق لي:
أقول لنعمان وقد ساق طِبُّهُ ... نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ
أبا منذرٍ أفنيت فاستبقِ بعضنا ... حنانيكَ بعض الشرِّ أهون من بعضِ
(*): يقصد حماسة أبي تمام.