[رسالة ابن فارس لأحد أصحابه – طريفة مفيدة ممتعة]
ـ[نايف الزهراني]ــــــــ[06 Oct 2008, 11:10 ص]ـ
قال الإمام الثعالبي في كتابه النفيس في تراجم الشعراء (يتيمة الدهر) , في ترجمته لابن فارس اللغوي رحمه الله:
(وأنا أكتب من رسالة لأبي الحسين –ابن فارس- كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب , فصلاً في نهاية الملاحة , يناسب كتابي هذا في محاسن أهل العصر، ويتضمن أنموذجاً من ملح شعراء الجبل وغيرها من العصريين وظرف أخبارهم .. والفصل من الرسالة المذكورة:
ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبب إليك الإنصاف.
وسبب دعائي بهذا لك إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتاباً في الحماسة وإعظامك ذلك، ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، ويرد المنهل الذي يَؤُمُّه، لاستدرك من جيد الشعر ونَقِّيِّه , ومُختَاره ورَضِّيِّه كثيراً مما فات المؤلف الأول، فماذا الإنكار؟ ولِمَه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادَّة المتقدم؟
ولِمَه تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخِر شيئاً. وتدع قول الآخَر: كم ترك الأول للآخِر؟ وهل الدنيا إلا أزمان ولكل زمان منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام ونتائج العقول؟
ومن قصر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولِمَه لا ينظر الآخِر مثل ما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه , ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟
ما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أَوَ ما علمت أن لكل قلب خاطراً , ولكل خاطر نتيجة؟
ولِمَه جاز أن يُقَال بعد أبي تمام مثل شعره , ولم يجز أن يؤلف مثل تأليفه (*)؟
ولِمَه حجرت واسعاً، وحظرت مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟ وهل حبيبُ إلا واحدٌ من المسلمين؛ له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولم جاز أن يُعارَض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنُّظَّار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شَذَّ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمرٌ لا يُدرَك ولا يُدرَى قدره؟
ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علمٌ كثير، ولذهب أدبٌ غزير، ولضَلَّت أفهامٌ ثاقبة، ولكَلَّت ألسنٌ لَسِنَة، ولما تَوَشَّى أحد الخطابة، ولا سلك شعباً من شعاب البلاغة، ولَمَجَّت الأسماعُ كلَّ مُرَدَّد مُكّرَّر، وللفظت القلوب كل مُرَجَّعٍ مُمَضَّغ، وحتَّامَ لا يُسأَمُ:
لو كنت من زمان لم تستبح إبلي
وإلى متى:
صفحنا عن بني ذهل
ولِمَه أنكرت على العجلي معروفاً، واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً وإيطاءً وإقواءً ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها ولا تصلح لها .. إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة، ولِمَه رضيت لنا بغير الرضى؟
وهَلَّا حثثت على إثارة ما غيبته الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نتجته خواطر هذا الدهر، وأفكار هذا العصر؟
على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة من قبله، من جد يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاح يلهيك.
وكان بقزوين رجل معروف بأبي محمد الضرير القزويني , حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول , فأحَسَّ أبو حامد بجودةِ أكله، فقال:
وصاحب لي بطنُه كالهاويهْ ... كأن في أمعائه معاويهْ
فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عجرد وأبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عارٌ على مثبته؟ أو في تدوينه وصمة على مدونيه؟
وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً عليه عمامة سوداء وطيلسان أزرق وقميص شديد البياض وخفُّه أحمر، وهو مع ذلك كله قصير، على برذون أبلق هزيل الخَلق , طويل الحَلق، فقال حين نظر إليه:
وحاكمٍ جاء على أبلقٍ ... كعقعقٍ جاء على لقلق
فلو شاهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يقصر عن قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه
¥