علّم الرسول الكريم أصحابه الأسماء بناء على معانيها يعي أن مفتاح العلم جاء به الدين. فقد حرص عليه الصلاة والسلام على تعليم أصحابه كيف يسمون أنفسهم، وكيف يسمون أشياءهم من حولهم، وجاء بمعاني الإسلام في أوضح عبارة وأسهلها. وقد وجدت خلال بحثي في علم الأسماء أن كلمة اسم لم توظف في كلام العرب، منثوره ومنظومه، إلاّ بعد نزول القرآن الكريم، وتعلّيم الناس أسس علم الأسماء على يديه صلّى الله عليه وسلّم.
ولقد كشفتْ لنا التقنيات الحديثة بجلاء دور الاسم في العلم، فالباحث المتمكّن من تخصصه يعلم أو سيعلم أين تكمن الصعوبة أمامه عندما يريد التّعمق في حقله حقّ التعمق، أو عندما يريد أن يوظف الآلة لتقوم بما يود منها أن تقوم به بدلاً عنه. أقول هذا سواء أكان التخصص رياضيات أم كيمياء أم فيزياء أم طبّ أم أدب أم لغة، أم غير ذلك. إن الاسم بقدر ما هو مفتاح العلم هو العقبة الكؤود أمام الإنسان ومن بعده الآلة، ولا غرابة في أن يكون الاسم هو المفتاح والعقبة في الوقت نفسه، فالله سبحانه وتعالى يقول: "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا".
ثمّ دعونا ننظر في آيتين كريمتين من كتاب الله لنعزز ما ذهبنا إليه في قضية الاسم بالبرهان؛ يقول الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (الكهف، 109). ويقول: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (لقمان، 27). فمكمن التّحدّي معلوم، والعلوم كلها قائمة على ما قام عليه الدين (الكلمة). فهل يحقّ لأحد أن يفصل بين العلم والدين بناء على وهمٍ توهمه.
ولا ينبغي لنا أن ننسى أن الرسول الكريم أوتي "جوامع الكلم" وهي مزيّة لم تؤت لأحد من قبله صلّى الله عليه وسلّم. وجوامع الكلم هي ما يختصر به العلم اختصارًا، فلو قلنا أنّه أوتي العلم لما قلنا غير الحق، وهو كذلك. والباحث الحصيف يعلم أن العالم اليوم هو أحوج ما يكون إلى جوامع الكلم لكثرة تشعب العلوم، وكثرة تدفقها، وسرعة وسائل نقلها، وقلة ما يمكن الإحاطة به منها، وغير ذلك من الأسباب التي لا تخفى على متبصّر.
لقد وصلتُ إلى هذه النتائج العلميّة بعد بحث دؤوب، وتأمل مستمر، زاد عن العقدين من الزمن ونشرت كلّ ذلك في أبحاث ومقالات وكتب، آخرها كتاب: أسماء الأشياء والعلم والتقنية: الإعجاز العلمي العظيم، 1427هـ. ولو لم يُحرّف معنى العلم في أذهان الناس لما كان هناك تثريب على المشتغلين بالإعجاز العلميّ إذا ما أعطوه حقّه من البحث والتحرّي. وكان ينبغي على المهتمين بالإعجاز في القرآن والسّنة أن لا ينساقوا وراء التصنيف السيئ للعلم كما انساق غيرهم من النّاس؛ ولكنهم فعلوا ظنًّا منهم أنهم يحسنون صنعا، فوقع اللبس، وكان الخلل.
ولو نظرنا إلى فهم علماء الإسلام السابقين للعلم لعلمنا أنهم ما كانوا يصنفونه كما نعمل اليوم، فالخليل بن أحمد، على سبيل المثال، أنجز أعماله المتميزة في اللغة والشعر مسترفدًا تخصصات كثيرة منها الرياضيات، فكان بقاء ما أنجز عبر القرون. وغيره أبدع في حقول مختلفة لفهمه العلاقة بينها وكونها لا تنفك عن بعضها كما نتصور اليوم. وقد تكلمت كثيرا، وكتبت في الأبحاث وفي الكتب، قدر ما استطعت عن مغبة تصنيف العلم بحسب ما صنفه غيرنا من الأمم.
نخلص إلى أن سوء فهم بعض أبناء المسلمين لمعنى العلم، ومصدره، ومنهجه، وهدفه، جعله يخطئ في حقّ العلم نفسه فهمًا وتعريفًا ومنهجًا، ويخطئ أيضًا في حقّ الدين فنزع منه صفة العلم؛ مع أنّه لو لم يكن الدين لما كان العلم، ولا كانت الحياة.
أ. د. ظافر بن علي القرني
أستاذ هندسة المساحة
جامعة الملك سعود – الرياض
www.dr-algarni.net
http://faculty.ksu.edu.sa\algarni-dafer
المرجع: جريدة عكاظ، ملحق الدين والحياة عدد يوم الخميس 8/ 11/1429هـ للجزء الأول من المقال، وعدد يوم الخميس 15/ 11/1429هـ للجزء الثاني منه. وقد جاء العنوان في الصحيفة مبتورا. . وهو مشاركة ضمن حوار مفتوح طويل بين مجموع من العلماء والمثقفين، حول علاقة الدين بالعلم.
رابط الجزء الأول
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20081106/Con20081106238962.htm
رابط الجزء الثاني
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20081113/Con20081113240609.htm