تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حجاجَ البيت العتيق، يا من امتنَعتم عن محظوراتِ الإحرام أثناءَ حج بيت الله الحرام، إنّ هناك محظوراتٍ على الدوام وطولَ الدّهر والأعوام، فاحذَروا إتيانها وقربانها، يقول جلّ في علاه: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة: 229].

أيّها المسلمون، من لبَّى لله في الحجّ مستجيبًا لندائه كيفَ يلبِّي بعدَ ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهَب أو نداءٍ يناهض دينَ الله الذي لا يُقبَل من أحد دين سواه؟! من لبِّى لله في الحجّ كيف يتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعتِه، أو ينقاد لغير حكمِه، أو يرضى بغير رسالته؟! من لبَّى لله في الحجّ فليلبِّ له في كلّ مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنَّى توجَّهت ركائبه، وحيث استقلَّت مضاربُه، لا يتردَّد في ذلك ولا يتخيَّر، ولا يتمنّع ولا يضجَر، وإنما يذِلّ ويخضع ويطيع ويسمَع.

يا عبدَ الله، يا مَن غابت عنه شمسُ هذه الأيّام ولم يقضِها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبت عليه مواسمُ الخيرات والرّحمات وهو منشغلٌ بالملاهي والمنكَرات، أما رأيتَ قوافل الحجّاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيتَ تجرُّدَ المحرمِين وأكفَّ الرّاغبين ودموعَ التائبين؟! أما سمعتَ صوتَ الملبّين المكبِّرين المهلّلين؟! فما لك قد مرّت عليك خيرُ أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوثاق؟!

يا من راح في المعاصي وغَدا، يقول: سأتوبُ اليومَ أو غدا، يا مَن أصبحَ قلبه في الهوى مبدَّدًا، وأمسَى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيَّدًا، تذكَّر ليلةً تبيتُ في القبر منفرِدًا، وبادِر بالمتابِ ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، واعلَم أنَّ الله يبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النهار.

ويا من تقلَّبتَ في أنواعِ العبادة، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلست بدار إقامة، واحذَر الإدلاء والرّياء فرُبّ عملٍ صغير تعظِّمه النّية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، يقول بعض السلف: "من سرّه أن يكمُل له عمله فليحسِن نيته".

وكن على خوفٍ ووجَل من عدَم قبولِ العمل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله عن هذه الآية: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فقلتُ: أهُم الذين يشرَبون الخمر ويسرِقون؟ فقال رسول الله: ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا تقبَل منهم، أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:61])) أخرجه الترمذي.

فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ في كلّ حين، وتذكَّروا قولَ الحقِّ في الكتاب المبين: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي آوى مَن إلى لُطفه أوى، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له داوى بإنعامِه من يئس من أسقامه الدّوا، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، من اتّبعه كان على الخير والهدى، ومَن عصاه كان في الغواية والردى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مضمار سباق، سبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخَابوا، فرحِم الله عبدًا نظر فتفكَّر، وتفكَّر فاعتَبر، وأبَصر فصَبر، ولا يصبِر على الحقّ إلاّ من عرف فضلَه، ورجا عاقبته، إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].

عباد الله، أنتم في الدنيا أغراضُ المنايا، وأوطان البلايا، أنتم الأخلافُ بعد الأسلاف، وستكونون الأسلافَ قبل الأخلاف، فاغتنِموا زمنَكم، وجاهدوا أنفسَكم، فإنّ المجاهدة بضاعة العُبَّاد ورأسُ مال الزُهَّاد ومدارُ صلاح النفوس، وسدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.

أيّها المسلمون، يا مَن قضَيتم حجَّكم، وأنعَم الله عليكم بالوصول إلى المدينة النبوية طابةَ المستطابة، تذكّروا وأنتم تَطؤون هذه الأرضَ المباركة أنها الأرضُ التي وطِئتها أكرمُ قدمين، والبلدة التي عاش عليها سيّد الثقلين نبيّنا محمّد. فاللهَ اللهَ في تعلُّم سنّته، ومعرفة سيرته، والسّير على طريقته، واتّباع هديه، واقتفاء منهجه، ولن يتحقَّقَ لكم ذلكَ الهدف المنشود إلا بالاستعانة الإله المعبود, وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

حجَّاجَ بيتِ الله العتيق، ليكُن حجّكم أولَ فتوحِكم، وتباشيرَ فجركم، وإشراق صبحكم، وبدايةَ مولدِكم، وعنوانَ صدق إرادتِكم، تقبَّل الله حجَّكم وسعيَكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيّام المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة، والأمّة الإسلامية في عزّة وكرامة ونصرٍ وتمكين ورفعة وسؤدَد.

اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، اللهمّ تقبّل من الحجّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها، اللهمّ اجعل سفرهم سعيدًا، وعودَهم إلى بلادهم حميدًا، اللهمّ هوِّن عليهم الأسفار، اللهم آمنهم من جميع الأخطار، اللهمّ احفَظهم من كلّ ما يؤذيهم، وأبعِد عنهم كلَّ ما يضنيهم، اللهمّ واجعل دَربهم دربَ السلامة والأمان والراحةِ والاطمئنان، اللهمّ وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبِّيهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وتقبّل منهم إنّك أنت السميع العليم، واغفر لهم إنك أنت الغفور الرحيم ...

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير