وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم"، فلم يشأ عليه الصلاة والسلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ما عداه حلالا طيبا.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها: (العادات أو المعاملات) فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقييد إلا ما حرّمه الشارع وألزم به، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119]، عام في الأشياء والأفعال.
وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي، وفيها جاء الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يُعبد إلا الله، وألا يُعبد إلا بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده – كائنا من كان- فهي ضلالة ترد عليه، لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يُتقرب بها إليه.
وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها، بل الناس هم الذين أنشأوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به – أي من العادات – كيف يحكم عليه بأنه محظور؟
ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرّمه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} [يونس:59].
وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول:
البيع، والهبة، والإجارة، وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم – كالأكل والشرب واللباس- فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاءون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة – وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها - وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي).انتهى.
ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن".
فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع، وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم، وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة، ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله.
والقول بأن هذه المسيرات (بدعة) لم تحدث في عهد رسول الله ولا أصحابه، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار: قول مرفوض؛ لأن هذا إنما يتحقق في أمر العبادة وفي الشأن الديني الخالص. فالأصل في أمور الدين (الاتباع) وفي أمور الدنيا (الابتداع).
¥