تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والخيال والتهيآت: البرية + الوحدة + العطش + الخوف من الموت ... ) فيأتيه (أي الجني) في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام، ويستتيبه فيسلم على يديه، ويطعمه ويدله على الطريق، ويقول: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، ويكون من مؤمني الجن، كما جرى مثل هذا لي (الكلام لابن تيمية): فقد كنت سجينا في قلعة مصر عندما وقع مثل هذا لبعض الترك من ناحية المشرق، حيث أتاه شخص وقال له «أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو. وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا، وكنت في الحبس، فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس ولكن (يجزم ابن تيمية) كان هذا جنيا يحبنا، فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق، كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر؛ فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك. قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون مَلَكا؟ قلت: لا إن المَلَك لا يكذب، وهذا قد قال أنا ابن تيمية، وهو يعلم أنه كاذب في ذلك. وكثير من الناس رأى من قال إني أنا الخضر وإنما كان جنيا ... »

نتساءل مرة أخرى كيف صدَّق ابن تيمية هذه القصة بسهولة، ولماذا ذهب إلى تفسير ادعاء هذا الشخص المتقمص، بأنه جني مؤمن، في حين أنكر أن يكون المدعي ملكا مبررا، ذلك بأن الملك لا يكذب. وهل الجن المؤمن الذي يعمل الخير ويدعو الناس للإسلام يكذب؟ لماذا لم يطرح احتمالا ثالثا، قريبا من الواقع، وهو أن شخصا ما يشبهه، أو لا يشبهه، أو أحدا من تلاميذه انتحل شخصيته، وادعى أنه هو، كما يفعل الكثير من الناس ويكذبون فيما يدعون؟ هذا إذا لم تكن القصة كلها ملفقة موضوعة، لا علاقة لها بالواقع، بل هي محض خيال في وقت جوع وخوف ووساوس، صدقها شيخ الإسلام نفسه، وانطلت عليه وبنى عليها أحكامه وآراءه، كما انطلت عليه قصص أخرى، رويت له دون أن يتتبع سندها وصحتها وصدقها ودون أن يطبق عليها منطقه المعهود وميزانه الدقيق.

في رواية أخرى، عن شيخ بمصر يقال له الدسوقي، بعد وفاته، كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة وأراني ـ يقول ابن تيمية ـ صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله فرأيته بخط الجن، وقد رأيت ـ يؤكد ابن تيمية ـ خط الجن غير ما مرة وفيه كلام من كلام الجن ... وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكا على صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله، وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به ... وأعرف من ذلك، يقول شيخ الإسلام، وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي، وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به، قد جئنا في الهواء ودفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات الشيخ ...

ولنا أن نتساءل بعد كل هذا، وغيره: إذا كان الجن يقرأون و يكتبون، ولهم خط وتأليف، فأين هي كتبهم وتآليفهم؟ وبأية لغة يقرأون ويكتبون؟ وهل لهم لغة واحدة أم لغات متعددة؟ وهل لهم جنسيات وحدود مثلنا؟ هل فيهم الهندي والفرنسي والأمريكي والمغربي والفلسطيني والصيني ... ؟

فهذا باب واسع، واقع كثيرا، وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر ... هذا التصور والتجسد مرتبط إذن بالجهل وبالابتعاد عن الدين الصحيح، والفهم الحقيقي للنصوص والأحداث، فمن ظن أن الأمر كذلك ـ أي ظهور الجن بصور الأنبياء والشيوخ والعلماء - لم يغلط، إذا صدق في ظنه، لكن غلط عقله حيث لم يعرف أن هذه وساوس تمثلت على صور هؤلاء لكن في الخيال أو المنام، هذه الوساوس تخيلها المدعي وهو في حالة نفسية خاصة ... وكثير من هؤلاء يظن أن النبى ? نفسه، أو غيره من الأنبياء أو الصالحين، يأتيه في اليقظة، ومن يرى ذلك عند قبر النبي أو الشيخ وهو صادق في أنه إياه، لم يكذب لكن غلط حيث ظن صدق من فسر له ذلك، أو ظن صدق ما رأى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير