أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? (فاطر / 1):
فلماذا لا يكون الجن أيضا أنواعا مختلفة، وأصنافا متعددة، ونحن اختزلناها في نوع واحد فالتبس الأمر علينا؟
سُئل بعض السلف عن الجنّ ما هم، هل يأكلون ويشربون، ويموتون، ويتناكحون؟ فجاء الجواب، من وهب بن منبه، مفصلا: «الجن أصناف: فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون، وجنس منهم يقع منهم ذلك ومنهم السعالى والغول والقطرب ... »، كما روى عبد الله بن أبي الدنيا في «كتاب مكايد الشيطان» من حديث أبي الدرداء أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليه الحساب والعقاب ... »
ويؤيد قوله ما روى ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجن على ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وعقارب وصنف يحلون ويظعنون» ...
يهمنا في هذا المستوى من التحليل، وانطلاقا من هذه الأحاديث وغيرها، أن الجن أصناف عدة: صنف يعيش في الأرض (التراب والماء)، وصنف موجود في السماء
والهواء، وصنف يحل ويرتحل، لذا وجب التنبيه إلى أن هذه الأحاديث يجب أن تفهم في سياقها العام الذي وردت فيه، فنحن نعتقد، انطلاقا من المعنى اللغوي لكلمة "جن" (سوف نعطي تعريفا للجن لاحقا)، وكذا من خلال مقارنتنا للجن والكائنات الدقيقة (التي ستأتي لاحقا)، أن هذه الكائنات (المجهرية) ما هي إلا صنف من الجن، وهو ما يستدعي منا تفصيله وبناء جهاز حجاجي للتدليل عليه، وهو ما سنعمل على تبسيطه في الصفحات الموالية -
لكن قبل ذلك سنحاول أن نضع تحت المجهر هذه الكائنات المجهرية التي وجدت قبل الإنسان بملايين السنين، والتي ظلت طوال حقبة سحيقة تنتمي إلى عالم الغيب، أي غائبة عن أعيننا وعقولنا، ولم نعلم بوجودها إلا في القرون الثلاثة الأخيرة، بل لم تتوطد معرفتنا بها إلا في السنوات القليلة الماضية بعد اختراع المجهر الإلكتروني، فهي إذن "جن" بالحتمية اللغوية، ثم سنحاول بعد ذلك أن نقارن بينها وبين الجن، من خلال ما ورد في القرآن الكريم وأحاديث سيد المرسلين، علنا نتلمس من خلال المقارنة بعض جوانب الشبه بينها وبين ما يعرف بالجن بإطلاق.
ـ[ابو دعاء]ــــــــ[21 Jun 2009, 08:55 م]ـ
كيف يشاركنا الشيطان أولادنا؟
قال تعالى مخاطبا إبليس: ?وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا? (الإسراء/64). ما من شيء يحرص عليه الشيطان كحرصه على ضلالة ابن آدم، وفوق ذلك يعمل جهده لمشاركته في ماله وولده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان، غير مريم وابنها" (الحديث في الصحيحين). وتتخذ هذه المشاركة أشكالا عديدة كمنع الحقوق الواجبة، وعدم التربية على الخير، وترك التسمية عند الجماع: روي عن جعفر بن محمد أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل: "باسم الله" أصاب معه امرأته، وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل (تفسير البغوي). وروي عن مجاهد قوله: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان". قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط. (تفسير القرطبي)
{وشاركهم في الأموال والأولاد} ليس معنى الشركة هنا، بمعنى دون معنى، فكل ما عصي اللّه فيه أو به، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة، وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم اللّه، اللهم جنبا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً".
وقوله تعالى: ?وأجلب عليهم بخيلك ورجلك? (الإسراء/64) أي احمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجالتهم، ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه من جند، وهذا أمر قدري، كقوله تعالى: ?ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا? (مريم/83) أي تزعجهم إلى المعاصي والشرور إزعاجاً وتسوقهم إليها سوقاً، وقال قتادة: إن له خيلاً ورجالاً من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه ...
وقال تعالى:?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ? قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا? (الإسراء/ 61 - 62)
في هذه الآية يتوعد إبليس ذرية آدم بكلمة غريبة خطيرة "لأحتنكن" ومعناها: لأغوينهم، ولأستولين عليهم ولأحتوينهم ولأضلنهم. والمعنى متقارب، أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال والإفساد، ولأجتاحنهم بكل الوسائل. تقول العرب: احتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله ...
¥