وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الأثر (3/ 336): {طيف} في حديث المَبْعَث [فقال بَعْضُ القوم: قد أصَاب َهذا الغُلامَ لَمَمٌ أو طَيْفٌ من الجنِّ] أي عَرَض له عارِضٌ منهم. وأصْلُ الطيْف: الجُنْوُنُ.
وفي تهذيب اللغة (4/ 427) قال: الطَّيفُ في كلام العرب الجنون.
وقال ابن سيدة في المخصص (1/ 225): قال أبو عبيدة، طَيْفٌ من الشَّيْطان أي يُلِمُّ به لَمَّاً، قال أبو علي، فقد ثَبَت مما حكاه أبو زيد من قولهم طافَ يَطِيف طائِفاً أن الطائف مصدر بمعناه مثل العافِيَة والعاقِبَة ونحو ذلك مما جاء فيه فاعِل وفاعِلةٌ وأنشد:
وتُصْبِح عن غِبِّ السُّرَى وكأنَّها ... ألَمَّ بها من طائِف الجِنِّ أَوْلَقُ.
وجاء في العباب الزاخر للصاغاني (1/ 468): وطَيْفٌ من الشيطان وطائفٌ من الشيطان: بمعنى، كقولهم: لَمَمٌ من الشيطان. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب وأبو حاتم قوله تعالى: طَيْفٌ من الشيطان والباقون: طائفٌ.
ونقل في (1/ 468) عن الأزهري: الطَّيْفُ في كلام العرب: الجنون.
وذكر ابن الأعرابي في معجمه (4/ 179) عن أبي عمرو بن العلاء، وقد قرأ: (طيف من الشيطان) قال: وهو قول الشاعر:
ما هاج حسان رسوم الديار ومصدر الحي ومبنى الخيام * جنية إن فنى طيفها تذهب صبحا وترى في المنام.
هذا هو كلام أهل اللغة، فأين هو من اختيارك تأويل المس والطائف بالوسوسة؟
وقلت في الآية الخامسة – وهي مس أيوب عليه السلام - وبعدما نقلت ما أردت قلت: [فالراجح الذي لا ينبغي تجاوزه في تفسير هاتين الآيتين أن ما أصاب أيوب عليه السلام إنما هو بسبب وساوس الشيطان لا غير!!]
أقول: هذا الجزم غير جيد، والأولى التحرز لوجود آراء أخرى في المسألة ..
وما رجحته أنت تباعا لرأي الزمخشري والقاضي عبد الجبار وهما من أئمة المعتزلة قد رده ابن عادل الحنبلي والواحدي النيسابوري في تفسيرهما للآية ..
وأنا عن نفسي أرتاح إلى إثبات كمال العصمة، وأعلم أن القصة فيها كثير من الإسرائيليات المردودة الباطلة .. ولكن هذا لا يجعلني أجزم كما جزمت أنت متناسيا من خالف هذا القول ورده من العلماء ..
وهذا الترجيح منك ما هو إلا تماشيا مع مذهبك ومذهب المعتزلة في أن الشيطان ليس له إلا الوسوسة.
وأهديك تقرير من عالم له ثقله، وعنده تحقيق قد لا تجده عند كثير من المفسرين أنقله لك فقط لتلجم قلمك عن الأئمة والعلماء الكبار لمجرد مخالفتهم لما تتبناه وتعتقده.
قال الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (22/ 209 - 212):
وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة "ص" إشكال قوي معروف. لأن الله ذكر في آيات من كتابه: أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام كقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} .. وتسليطه للابتلاء على جسده وماله وأهله ممكن، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي. كمداهنة الملك المذكور، وعدم إغاثة الملهوف، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون .. ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ابتلاء ليظهر صبره الجميل، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة، ويرجع له كل ما أصيب فيه، والعلم عند الله تعالى، وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب، لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض، وذلك يقع للأنبياء، فإنهم يصيبهم المرض، وموت الأهل، وهلاك المال لأسباب متنوعة. ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء. اهـ
وقرر قريب منه أو مثله السعدي في تفسيره (1/ 714).
وفي قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ)
قلت: [وهذه الآية هي التي يدور عليها قطب الرحى في موضوع الجان وعلاقته ببني الإنسان. إذ قد استغلت هذه الآية على نحو عجيب في إثبات ظاهرة ما يُسمى بـ (تلبُّس الجان للإنسان)]
¥