وأقرب مثال على ذلك: بعض الاختلافات بين سير النبلاء وتاريخ الإسلام مع أن السير من التاريخ، ومع ذلك يتغير اجتهاده في الحكم على الرواة أو بيان وهم أو تصحيح تاريخ أو غير ذلك ..
5 - قالوا: أنه على هذا فالإمام الذهبي كثير الخطأ وكثير التساهل وكثير التناقض!
قلنا: إذا تبين لنا أن هذا الذي فعله كان في أوائل التصنيف، وأن نقده لما سبق وأقر الحاكم عليه كان بعد تمكنه في علم الرجال حتى صار من أئمة عصره بلا نزاع، فلا إشكال حينئذ ..
بل هي في الحقيقة منقبة له، إذ إنه بين أن بعض كتبه في حاجة إلى تحرير ومراجعة، وهذا من سمات العلماء الكبار الذين حمى الله قلوبهم من الكبر، وهذا ديدن علماء الأمة الناصحون من قديم الزمان ..
فالشافعي مثلا له القديم والجديد وما هذا إلا من تغير الاجتهاد .. ولأحمد تغير واضح في الرجال وفي الحكم على بعض الأحاديث، ومن راجع كتب ابنه عبد الله علم ذلك، وكثير من علمائنا كذلك والمقام لا يتسع لذكر الأمثلة إذ إن هذا مما تقرر بداهة بالحس والعقل والنقل ..
فعجيب قول الفاضل صاحب لسان المحدثين:
وهذه اللوازم الثلاثة أي كثرة الخطأ وفحش التساهل وتكرار التناقض منتفية - قطعاً - عن الإمام الذهبي، باطلٌ - جزماً - وصْفُهُ بها، فالملزوم - وهو أن سكوت الذهبي عما سكت عليه من أحكام الحاكم كان إقراراً له فيها وموافقة له عليها -: باطل أيضاً. اهـ
فقد صور الإمام الذهبي وكأنه معصوم، فنفى عنه الخطأ والوهم والتساهل والتناقض!! ولو أنه بين للناس أن هذا في أوائل التصنيف وفي بداياته لأراح نفسه من هذا الغلو ..
6 - أنه لم ينقل عن أحد أن نقله لتصحيح الحاكم موافقة له؟
قلنا هذا منقول عن العلماء عمليا في كثير من كتبهم؟ والأمثلة عليه كثيرة ..
فمعنى أنهم يقولون صححه الحاكم ووافقه الذهبي أنهم فهموا أن تلخيص الذهبي يشمل التضعيف والتصحيح، وليس بهذه التفرقة المخترعة في هذه الحقبة الأخيرة ...
ومع ذلك فقد يرجع هذا إلى أمور:
منها: أن يكون المختصر ليس مشهورا بيد يدي بعض تلاميذه ..
فهذا الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، نقل كثيرا من تصحيح الحاكم ولم يتعقبه ولم يذكر إقرار الذهبي عليه.
وعلى سبيل المثال في البداية (1/ 149) قال عن حديث: الكرسي موضع القدمين: رواه الحاكم في مستدركه وقال إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقد رواه الحاكم رقم (3116) وقال صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، وقال الذهبي قي التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.
وفي (1/ 73) قال في حديث: رواه .. والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به وقال الحاكم صحيح الإسناد. وهذا الحديث رواه الحاكم رقم (1902) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
وفي حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال أي رب ألم تخلقني بيدك الحديث قال ابن كثير (1/ 90): ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقد رواه الحاكم في المستدرك رقم (4002) وقال: صحيح الإسناد و لم يخرجاه، وقال الذهبي قي التلخيص: صحيح.
وموافقاته للحاكم كثيرة جدا انظر على سبيل المثال في البداية (1/ 97) وفي (1/ 100) وفي (1/ 108)
وقال في حديث غدير خم في البداية (5/ 228): قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي وهذا حديث صحيح.
وقد رواه الحاكم في المستدرك (3/ 118) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله، وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
ورواه الحاكم في (3/ 613 رقم 6272) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي قي التلخيص: صحيح.
ولا أجزم بأن ابن كثير اطلع على مختصر المستدرك لشيخه، لاحتمال أن يكون نقل تصحيحه من كتبه الأخرى وهي كثيرة.
ومنها: أن يكون وقع لبعض تلاميذه ونقلوا عنه التضعيف ولم ينقلوا التصحيح حسب الحاجة فيما يكتبون ..
ومنها: أنهم قد يصححون للحاكم اكتفاء بإقرار الذهبي وحينئذ لا حاجة لذكره لمقام الاختصار في التخريج.
ومنها: أن ينقلوا تصحيحه وإقراره في بعض الأحيان مثل ما وقع للزيلعي وابن الملقن:
فقد ذكر الإمام الزيلعي في نصب الراية (4/ 161) عن حديث: " سيد الشهداء عند اللّه يوم القيامة حمزة " قال: رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي عليه. اهـ
¥