وجاء بعد صاحب الكشاف الرازي (ت 606هـ) وذكر عند تفسيره قوله تعالى: ?وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ? (غافر/ 41) أن معناها: ((أنا ادعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار)) () , وهذه الآية من الإحتباك لأنَّه ذكر النجاة الملازمة للإيمان أولا دليلاً على حذف الهلاك الملازم للكفران ثانياً , والنار ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً.
أما القرطبي (ت 671هـ) فقد ذكر إشارة أخرى عندما قال معلقاً على قوله تعالى: ?وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? (البقرة / 228): ((أي لهن من الحقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن)) () , وهذا مما عُدَّ من الإحتباك أيضاً لأنَّه حذف من الأول (على الرجال) لدلالة (عليهن) في الثاني عليه وحذف من الثاني (للرجال) لدلالة (لهن) في الأول عليه.
أما النسفي (ت710هـ) فقد ذكر عند وقوفه على قوله تعالى: ? وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ? (الأعراف / 4) أنَّّه ((إذا قيل بياتاً: ليلاً , أي ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون)) () , وعلى هذا تكون الآية من الإحتباك أيضاً وذلك لأنَّه حذف من الأول (نائمون) لدلالة الثاني عليه (قائلون) , وحذف من الثاني (نهاراً) لدلالة الأول عليه وهو (بياتاً أي ليلاً).
هذه ابرز الإشارات التي وردت عند علمائنا الأوائل والتي كانت الأساس والنواة في تأسيس الإحتباك.
ثم بعد ذلك نضجت الفكرة من خلال هذه الإشارات ونمت حتى أنَّ أبا حيان الأندلسي (ت745هـ) الذي يعد من أوائل الذين بينوا الإحتباك ووضحوه إلا أنَّه لم يسمه بالإحتباك عندما فسر الآية التي مرت أنفاً عند القرطبي وهي قوله تعالى: ?وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? قال معلقاً عليها: ((هذا من بديع الكلام، إذ حذف شيئاً من الأول أثبت نظيره في الآخر، وأثبت شيئاً في الأول حذف نظيره في الآخر، وأصل التركيب ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ، فحذفت على أزواجهنّ لإثبات: عليهنّ، وحذف لأزواجهنّ لإثبات لهنّ)) () وهذا هو الإحتباك المتناظر الذي يحذف من كلٍّ من الطرفين ما اثبت نظيره من الآخر, وقال في قوله تعالى: ? لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ? (الأحزاب / 8): ((ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب به الصادقون، وهم المؤمنون، وذكرت العلة؛ وحذف من الثاني العلة، وذكر ما عوقبوا به. وكان التقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم، فأثابهم؛ ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم)) () وهذا من الإحتباك الضدي الذي يحذف من كلٍّ من الطرفين ضد الآخر , وغيرها من الآيات التي سوف نتناولها في هذا البحث , ومن هذا الكلام نستنتج ان أبا حيان فرق بين الألفاظ المحذوفة , وهو أول من ذكر الإحتباك ونظر له من غير أن يسميه , وعده من الفصاحة والبيان , ومن بديع الحذف والكلام , فكل من جاء بعده نقل عنه وأخذ الفكرة ولم يذكر انه نقل عنه , وبهذا يعد أبو حيان هو المنظر الأول – إذا صح التعبير – لمفهوم الإحتباك إلاّ أنه لم يطلق عليه مصطلحاً , والذين جاءوا من بعده أخذوا الفكرة منه كما قلنا ثمَّ وضعوا له مصطلحات أشهرها الإحتباك.
وهذا ابن القيم (ت751 هـ) -رحمه الله- جعله من الإيجاز الحسن من غير أن يسميه عند تعليقه على عدد من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: ? ..... إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ? (الأعراف/56) فقال: ((إنَّ هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر , لكونه تبعاً له , ومعنىً من معانيه , فإنَّه ذكرٌ أغنى عن ذكره لأنَّه يفهم منه (( ........ )) فعلى هذا يكون الأصل في الآية: إنَّ الله قريبٌ من المحسنين, وإنَّ رحمة الله قريبة من المحسنين)) (). وعند قوله تعالى: ? ... وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ? (المزمل / 8) قال: ((ومصدر بتل إليه (تبتلاً) كالتعلم والتفهم, ولكن جاء على (التفعيل) مصدر (فَعَّلَ) لسرٍ لطيف فإنَّ في هذا الفعل إيذاناً بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة, فأتى بالفعل الدال على أحدهما , وبالمصدر الدال على الآخر فكأنة قيل: بتل نفسك إلى الله تبتيلا
¥