وتبتل إليه تبتلا, ففهم المعنيان من الفعل ومصدره. وهذا كثير في القرآن, وهو من حسن الاختصار والإيجاز)) ().
فابن القيم في هذين الموضعين يبين المحذوف والمذكور ويدل عليهما ويجعله من الإيجاز الحسن.
وجاء بعد ابن القيم الزركشي (ت 794هـ) فذكره بالبرهان وأطلق عليه اسم (الحذف المقابلي) وقال عنه: ((هو أن يجتمع في الكلام متقابلان فيحذف من كلِّ واحدٍ منهما مقابله لدلالة الآخر عليه)) ().
أما بعد الزركشي فقد اخذ العلماء يسمونه بالإحتباك وأول من ورد عنده هذا الاسم علي الجرجاني المعروف بالشريف الجرجاني (ت 816هـ) في كتابه التعريفات وأورد له نفس كلام الزركشي ().
ومن بعد علي الجرجاني جاء الإمام برهان الدين البقاعي (ت855هـ) – رحمه الله – الذي اهتم به كثيراً , حتى إنَّ تفسيره (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) ورد فيه الإحتباك بكثرة , ونظر له أيضاً فقال في احد المواضع: ((هو أن يحذف من جملةٍ شيءٌ إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه)) () , ولم يكتف بذكره في تفسيره بل صنف له كتاباً خاصاً وسماه (الإدراك لفن الإحتباك) كما يقول هو: ((وقد جمعت فيه كتاباً حسناً ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته (الإدراك لفن الإحتباك))) () , وبعد البحث عن هذا الكتاب لم نعثر عليه ولعله من كتبه المفقودة , وينسب بعض العلماء هذا الفن إليه () بسبب اهتمامه به , فهو كثيراً ما يقف على الآيات الكريمات التي فيها احتباك ويذكر ويبين ما حذف وما ذكر من الآخر من حيث التضاد والتشابه والنفي ... الخ.
وكل من جاء بعد الجرجاني والبقاعي اخذ يذكره باسمه ولكن بحدودٍ مختلفة , فبعد البقاعي ذكره الإمام السيوطي (911هـ) باسمه وجعله واحداً من اقسام الحذف في كتبه () , ونظر له وعده من أجمل أنواع الحذف والإيجاز وعزاه إلى البقاعي فقال عنه: ((هو من ألطف الأنواع وأبدعها وقل من تنبه له أو نبه عليه من أهل فن البلاغة ولم أره إلا في شرح بديعية الأعمى لرفيقه الأندلسي وذكره الزركشي في البرهان ولم يسمه هذا الاسم بل سماه الحذف المقابلي وأفرده في التصنيف من أهل العصر العلامة برهان الدين البقاعي. قال الأندلسي في شرح البديعية: من أنواع البديع الإحتباك وهو نوع عزيز وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول كقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} الآية التقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق والذي ينعق به فحذف من الأول الأنبياء لدلالة الذي ينعق عليه ومن الثاني الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه. وقوله: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء} التقدير تدخل غير بيضاء وأخرجها تخرج بيضاء فحذف من الأول تدخل غير بيضاء ومن الثاني وأخرجها. وقال الزركشي: وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان فيحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى: ((أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون)) التقدير: ((إن افتريته فعليّ إجرامي وأنتم برآء منه وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون)) ().
أما من جاء بعد السيوطي فلم يضف شيئاً على ما ذكره العلماء آنفاً في الإحتباك مكتفين غالباً بالأمثلة التي أوردها الذين من قبلهم, منهم الالوسي () والقاسمي () , والقِنوجي () , والعلامة الجمل () , والشيخ الصاوي () ,,ابن عاشور () والشنقيطي () ,والصابوني () , وعبد الفتاح الحموز ()، أما الشعراوي فقد ذكر له اسماً أخر مع الإحتباك وهو (تربيب الفائدة) فقال: ((وهذا ما يسميه العلماء احتباك , وهو أن يأتي المتكلم بأمرين كلُّ أمر فيه عنصران المتكلم يريد أن يربي الفائدة بإيجازٍ دقيق فيجيء من العنصر الأول عنصر ويحذف مقابله من العنصر الثاني, ويجيء من العنصر الثاني عنصرٌ ويحذف مقابله في الأول)) ().
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[18 - 01 - 2007, 06:28 م]ـ
الأستاذ الفاضل الدكتور عدنان الأسعد ..
شكر الله لك جهدك وبارك في وقتك ..
ونحن بانتظار المزيد .. فجزاك الله خيراً ونفع بعلمك ..
ـ[محمود سعيد أحمد]ــــــــ[12 - 05 - 2009, 02:12 م]ـ
جزاك الله خيراً أخي الدكتور عدنان على هذا الفن الجميل الذي يغفل عنه كثير من الفصحاء.
ولعلى لا أقدّم بين يديك سيدي إن طرحت هذا المثال؛ ولكن من قبيل التفاعل معكم أذكره، قال الله عز وجل في سورة آل عمران: (قد كان لكم آية في فئتين التفتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة .. )
ففهمنا المحذوف من هذه الآية المحبوكة كالآتي:
الفئة (الأولى مؤمنة) دلّ على ذلك المحذوف المذكورُ في نظيرتها (وأخرى كافرة)
وهذه الفئة الكافرة (تقاتل في سبيل الشيطان) دلّ على ذلك المحذف المذكورُ في نظيرتها (تقاتل في سبيل الله).
وأكرري شكري لكم سيدي وفقك الله.
:; allh
ـ[طارق يسن الطاهر]ــــــــ[14 - 05 - 2009, 08:32 م]ـ
الدكتور عدنان أحسنت وجزاك الله خيرا
أخي محمود، كانت هذه الآية على ذهني وأنا أقرأ موضوع الدكتور وأردت أن أذكرها في مداخلتي لكنك سبقتَ بالفضل، فلا غرو أن يسبقني شريكي في "النيل "
¥