[مفهوم النظم وعلاقته بالبلاغة]
ـ[تأبط شعرا]ــــــــ[20 - 02 - 2008, 03:20 م]ـ
:::
[مفهوم النظم وعلاقته بالبلاغة]
ماذا يعني النظم عند عبد القاهر؟
النظم عند عبد القاهر يعني ترتيب مفردات الكلام ترتيبًا خاصًّا وفقًا للعلاقات النحوية أو لمعاني النحو -كما يعبر في بعض الأحيان- وهذا الترتيب يقع بين معاني الألفاظ المفردة لا بين الألفاظ ذاتها، وإن كان لا بد من وقوع الترتيب فيها بالضرورة من حيث إنها إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالةَ وقوع الترتيب فيها بالضرورة، فإذا وجب لمعنًى أن يكون -أولًا- في النفس، وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولًا في النطق.
إن عبد القاهر جعل النظم همه، أو صرف جل همه في بيانه وإثباته في كتاب (دلائل الإعجاز) و (في أسرار البلاغة) أيضًا، وهو يرى أن الكلمة المفردة مجردة، أو أن الكلمات المفردة مجردة عن معاني النحو لا قيمة لها، ولا بد هنا من أن نشير أو أن نوضح بالمثال: حين نقول: فهم الطالب محاضرة، يرى عبد القاهر أن المقصود بهذه الجملة هو فهم الكلام كله، فهم المعنى مكتملًا وليس فهم كل كلمة من الكلمات على حدة، بدليل أنك إذا فرقت بين الكلمات -ولا سيما في جملة أو في تركيب الأكبر من الجملة الواحدة- لن يُسْتَطاع الفهم على نحو واضح، ثم إن الجملة التي أشرت إليها لا يمكن أن يكون القصد منها فهم كلمة "فهم" وحدها، وكلمة "الطالب" وحدها، وكلمة "المحاضرة" وحدها، بل لا بد من ضم الكلمات الثلاثة بعضها إلى بعض، وإقامة علاقة نحوية بينها.
الكلمة الأولى فعل يحتاج إلى فاعل، وهذا الفعل يحتاج أيضا إلى مفعول به، في ضوء هذه العلاقة الثلاثية بين الكلمات الثلاث يمكن فهم العبارة. هذا هو النظم في معناه البسيط جدًّا؛ ولذلك يقول عبد القاهر: إن معاني الكلمات المفردة مجردة عن معاني النحو لا قيمة لها، بل لا يتعلق الفكر بها؛ وكيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى، ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تُعْلِمَ السامع بها شيئًا لا يعلمه.
ومعلوم أنك -أيها المتكلم- لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلمة المفردة التي تكلمه بها؛ فلا تقول: خرج زيد. لتعلمَه معنى خرج في اللغة، ومعنى "زيد" كيف، ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها -كما تعرف- ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلامًا، وكنت لو قلت "خرج" ولم تأتِ باسم، ولا قدرت فيه ضمير الشيء، أو قلت: زيد، ولم تأتِ بفعل ولا اسم آخر، ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتًا تصوِّته سواء.
معنى هذا -مرة أخرى- أن الكلمات المفردة لا تفيد معنى الكلام، أو لا تعني كلامًا مفيدًا بل لا بد من ضم عدة كلمات على هيئة مخصوصة، هي العلاقات النحوية -كما ذكرت في البداية.
وتأكيدًا لهذا يرى عبد القاهر بأن الكلمة منعزلة عن نَظْمٍ تقع فيه أو عن سياق تكون فيه لا تفيد شيئًا، ولا تكون ذات جدوى، إنما تفيد الكلمة معنًى، ويصبح لها شأن حين تأتي في جملة أو تأتي في سياق مكتمل؛ النظم بهذا هو البلاغة، وهو الفصاحة، وهو البيان، وهو البراعة.
ويفصل عبد القاهر القول، فيقول: إن مزية كلمة على كلمة أخرى قد تشاركها في المعنى، ينحصر في أن إحداهما قد تكون مألوفة مأنوسة في الاستعمال، والأخرى ليست كذلك؛ الأخرى غريبة أو وحشية تتحامها الألسنة، أو أن إحداهما خفيفة على اللسان حسنة الوقع في الآذان، والأخرى مستثقلة في النطق مستكرهة في السمع. هذا هو كل ما هناك من فرق، ويبدو الأمر واضحًا الآن في اختلاف عبد القاهر عن البلاغيين، ذلكم الذين جعلوا الفصاحة شيئًا مستقلًا، وتدخل قيدا في تحقق البلاغة، بل إن عبد القاهر يصرِّح بهذا ويقول: إن الوصف بالفصاحة لأن الكلمات الخمس؛ الفصاحة والبلاغة والبيان والنظم والبراعة -كما قلت- بمعنى واحد.