تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الإعجاز في قوله تعالى (ولا طائر يطير بجناحيه)]

ـ[محمد سعد]ــــــــ[25 - 01 - 2008, 03:52 م]ـ

[الإعجاز في قوله تعالى (ولا طائر يطير بجناحيه)]

صالح أحمد البوريني

عضو رابطة الأدب الإسلامي

يظل القرآن الكريم كتاب الله المهيمن على الكتاب كله، وحجة الخالق على خلقه، وآية صدق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومعجزته الأبدية الخالدة على مر العصور إلى يوم النشور.

ويظل نظْم القرآن اللغوي وأسلوبه البياني منبع الإعجاز القرآني؛ الذي تفيض منه كل أنواع الإعجاز الأخرى؛ التي تتسع بها دائرة التحدي الإلهي للثقلين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو أن يأتوا بسورة من مثله أو حتى بآية.

وما زال النظر في القرآن الكريم وتدبر آياته يفتح مغاليق الفهم، وتشرق به أنوار المعرفة، وتظهر به أسرار وخفايا هذا الكون العجيب؛ لتعزز اليقين القائم، وتؤكد الإيمان الراسخ بوحدانية الخالق عز وجل وألوهيته وجلاله وعظمته، وصدق نبوة أنبيائه ورسله، وإعجاز قرآنه وإشراق أنوار بيانه

أجل؛ إن النظر في نظم آي القرآن، وتأمل أساليبه وتراكيبه يزيل ـ مع ظهور آيات الأكوان وتبَدّي سنن الله تعالى في حياة الإنسان ـ ما عسى أن يكون قد غشي بعض الأبصار من الإبهام؛ فحارت في إدراك معانيه الأفهام.

ومن ذلك ما سنطرق لبيانه باب آية من كتاب الله عز وجل، لندخل إلى رحابها، ونطلع على سر من أسرار إعجازها البياني الذي ظل خافيا دهورا طويلة، حتى انكشف لأهل هذا الزمان الذي شهد اختصار المسافات، وتوفير الجهود والأوقات، بما تَيَسّر لأهله من قدرة على الطيران، وتسخير المادة لركوب الهواء واختراق الأجواء.

تلكم هي الآية الثامنة والثلاثون من سورة الأنعام، حيث يقول تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون).

يبين الحق سبحانه أن دواب الأرض وطيورها التي تطير بأجنحتها ما هي إلا أصناف وأجناس وأمم كأمم الناس، يسري عليها ما يسري على البشر من سنن الله تعالى في الوجود والتكاثر والرزق وغير ذلك، وأن كتاب الله تعالى محكم لا تفريط فيه، وأن هذه الأمم جميعا في النهاية محشورة إلى الله تعالى. وهذا هو المعنى الذي نقله العلماء عن أكثر أهل التفسير.

واسمح لي عزيزي القارئ أن أقف بك على جملة قرآنية من الآية هي قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحيه) لننظر في هذه الإضافة الاحترازية، وهي قوله تعالى (يطير بجناحيه). لقد مر عن هذه الجملة القرآنية كثير من المفسرين دون أن يتعرضوا لتفسيرها ولا بيان سبب ورودها، واجتهد بعضهم في بيان سببها فجاء بأقوال لا تصح. ومن هؤلاء إمام المفسرين ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ حيث يقول: " فإن قال قائل: فما وجه قوله (ولا طائر يطير بجناحيه)؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ ". ثم يبين أن ذكرها إنما جاء من قبيل " إرادة المبالغة جريا على قول العرب في خطابهم: كلّمْته بفمي و ضربته بيدي ". وأما القرطبي في تفسيره فبيّن أنها جاءت: " للتأكيد وإزالة الإبهام، فإنّ العرب تستعمل الطيران لغير الطائر: تقول للرجل: طِرْ في حاجتي ". ولا شك أن هذا التأويل بعيد.

ومع ذلك فإن وقوف الطبري عندها، وغيره ممن حاولوا النظر فيها؛ لدليل على فطنتهم وسعة فهمهم وعمق نظرهم، وإن لم يدركوا سرها فإن ذلك لا ينقص بتاتا من قدرهم ولا يحط من مكانتهم ولا يهوّن من شأن علمهم، لأن علمها في الحقيقة يتجاوز عصرهم ويمتد وراء آفاق مدركاتهم.

نعرف عزيزي القارئ أن الطائر يتميز عن سائر الدواب بجناحيه الذين يمكنانه الطيران، فإذا ذكر الطائر تبادرت إلى الذهن صورته بجناحين اثنين مطويين أو منشورين، يخطر على الأرض أو يحلق في الفضاء. لذلك فإنّ ذكْر الطائر يغني عن ذكر جناحيه. فإذا ذكر الطائر وتلاه ذكر جناحيه فلا بد أن يكون وراء ذكرهما قصد مقصود وهدف منشود. فما هو القصد من ذكر الجناحين بعد ذكر الطائر في الآية السابقة؟ لماذا قال تعالى (ولا طائر) ولم يكتف بذكر الطائر بل جاء بعده بذكر صفته اللازمة قائلا (يطير بجناحيه)؟

الجواب ـ والله أعلم ـ: لأن هناك ما يطير في الفضاء ويحلق في الأجواء ولكنه ليس أمما أمثالنا، وإنما هو شيء مختلف وصنع مختلف، لا يدركه الإنسان العربي القديم في عصره، ولا يعرف عنه شيئا. أما إنسان عصر العلم والتكنولوجيا وغزو الفضاء؛ فإنه يعرفه تمام المعرفة، لأنه رآه بعينه وسمعه بأذنه، وشاهد فعله وأثره، وأدرك خيره وشره. ألا ترى عزيز القارئ كيف تحول الفضاء حول الأرض في هذا العصر إلى شبكة من الخطوط الملاحية التي تطير فيها الطائرات وتعبرها النفاثات محلقة في الفضاء، مختصرة مسافات الأرض، مختزلة أبعاد الزمان. ولكنها كلها تطير مدفوعة بقوة احتراق الوقود. فإذا لم تزود خزاناتها بالوقود النفاث ظلت جاثمة في أماكنها عاجزة عن الطيران. وإذا نفد وقودها وهي في الجو هوت ركاما وأمست حطاما. إن هذه الأجسام الطائرة في جو السماء لا تطير طيرانا ذاتيا بأجنحتها بل بقوة احتراق الوقود، فهل هي أمم أمثالنا؟ ‍‍

تتضح حكمة الله تعالى هنا، ويبرز وجه الإعجاز البياني القرآني بذكر هذه العبارة التي استثنت من طيور السماء كل ما أخرجته مصانع الطائرات العسكرية والمدنية من وسائط النقل الجوي في هذا العصر. ولو لم تأت هذه العبارة الاحترازية الإعجازية (يطير بجناحيه) لكان لقائل أن يقول: إن القرآن لا يفرق بين الكائن الحي والجماد ولا بين الطائر الحقيقي والطائر الصناعي، إذ كيف تكون الطائرات النفاثة والمروحية وغيرها أمما أمثال البشر؟؟ إن هذا لمحال.

لقد كان كافيا للعربي زمن نزول القرآن ليدرك المعنى أن تأتي الآية من غير هذه العبارة التي تساءل عن سر ذكرها المفسرون، ولكن القرآن لم ينزل للعرب فحسب، ولا لذلك الزمان وحده، وإنما نزل للعالمين وإلى يوم الدين. وصدق الله العظيم إذ يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير