[بلاغيات قرآنية]
ـ[موسى أحمد زغاري]ــــــــ[28 - 02 - 2008, 02:07 ص]ـ
بلاغيات قرآنية من تفسير الرازي
{ذَلِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة / 2].
قوله تعالى: {ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: المشار إليه ههنا حاضر، و «ذلك» اسم مبهم يشار به إلى البعيد، والجواب عنه من وجهين:
الأول: لا نسلم أن المشار إليه حاضر، وبيانه من وجوه:
أحدها: ما قاله الأصم: وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد، فقوله: {ذ?لِكَ} إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآناً، قال الله تعالى:
{وَإِذَا قُرِىء ?لْقُرْءانُ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ}
[الأعراف: 204]
وقال حاكياً عن الجن
{إنا سمعنا قرآناً عجباً}
[الجن: 1]
وقوله:
{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـ?باً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى?}
[الأحقاف: 30] وهم ما سمعوا إلا البعض، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت،
وثانيها: أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه، ويؤيده قوله:
{إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}
[المزمل: 5] وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث،
وثالثها: أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وينزل عليه كتاباً فقال تعالى: {ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ} أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل،
ورابعها: أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله:
{وَإِنَّهُ فِى أُمّ ?لْكِتَـ?بِ لَدَيْنَا}
[الزخرف: 4] وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك، فغير ممتنع أن يقول تعالى: {ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ} ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ.
وخامسها: أنه وقعت الإشارة بذلك إلى «ألم» بعد ما سبق التكلم به وانقضى، والمنقضى في حكم المتباعد،
وسادسها: أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك ـ وقد أعطيته شيئاً ـ احتفظ بذلك.
وسابعها: أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها ـ والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ـ فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.
«ذلك» يشار بها للقريب والبعيد:
المقام الثاني: سلمنا أن المشار إليه حاضر، لكن لا نسلم أن لفظة «ذلك» لا يشار بها إلا إلى البعيد، بيانه أن ذلك، وهذا حرفاً إشارة، وأصلهما «ذا»؛ لأنه حرف للإشارة،
قال تعالى: {مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
[البقرة: 245] ومعنى «ها» تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه، وقد تدخل الكاف على «ذا» للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل: «ذلك» فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض، وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا على مقتضى الوضع. العرفي وحينئذٍ لا يفيد البعد؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر
قال تعالى:
{وَ?ذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْر?هِيمَ وَإِسْحَـ?قَ}
[ص?: 45] إلى قوله -
{وَكُلٌّ مّنَ ?لأخْيَارِ}
[ص?: 48] ثم قال:
{هَـ?ذَا ذِكْرُ}
[الأنبياء: 24] وقال:
{وَعِندَهُمْ قَـ?صِر?تُ ?لطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَـ?ذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ ?لْحِسَابِ}
[ص?: 52 - 53] وقال:
{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}
[ق?: 19] وقال:
{فَأَخَذَهُ ?للَّهُ نَكَالَ ?لأَخِرَةِ وَ?لأُوْلَى? إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى?}
[النازعات: 25 - 26] وقال:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ}
[الأنبياء: 105] ثم قال:
{إِنَّ فِى هَـ?ذَا لَبَلَـ?غاً لّقَوْمٍ عَـ?بِدِينَ}
[الأنبياء: 106] وقال:
{فَقُلْنَا ?ضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذ?لِكَ يَحْيَى? ?للَّهُ ?لْمَوْتَى?}
[البقرة: 73] أي هكذا يحيى الله الموتى، وقال:
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ي?مُوسَى?}
[طه: 17] أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة *، الجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو (آلم) وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر ـ وهو السورة ـ وهو مؤنث، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو (آلم)، لا الذي هو مؤنث وهو السورة. انتهى.
الحقيقة أن هذا التفسير من تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) فرحم الله الرازي فقد كان فخر المفسرين حقا.
* يقصد اسم السورة (البقرة) وهي لفظة مؤنثة.