[الإنشاء المراد به الخبر وعكسه]
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 02 - 2008, 02:04 ص]ـ
من الأساليب المعروفة في لغة العرب:
ورود الخبر وإرادة الإنشاء به، وعكسه، لنكت بلاغية تزيد المعنى قوة:
فمن الإنشاء المراد به الخبر:
قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا): فالفعل: (فليمدد): أمر، وإن شئت الدقة فقل: دعاء تأدبا مع الله عز وجل، وقد أريد به الخبر في هذا السياق، فآل المعنى إلى: قل من كان في الضلالة فإن الرحمن سيمد له، يقينا، في ضلالته مدا، ولعل مجيء المفعول المطلق: "مدا"، مما يؤكد هذا المعنى، فنزل الأمر منزلة الخبر الواقع المحقق، توكيدا على ذلك، والله أعلم.
يقول الزمخشري، غفر الله له، في "كشافه":
"أي مدّ له الرحمن، يعني: أمهله وأملى له في العمر، فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لتقطع معاذير الضالّ، ويقال له يوم القيامة {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] أو كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178] أو: {مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدّة حياته". اهـ
فخرجه الزمخشري على أنه: دعاء أريد به الخبر أو على أنه على أصله: دعاء بالإمهال، والله أعلم.
وقوله عفا الله عنه: "إيذاناً بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة"، قد يرد عليه أصل: الإيجاب على الله، عز وجل، وهو أصل فاسد اعتمده المعتزلة في مسألة: الوعد والوعيد، فأوجبوا على الله، عز وجل، وقوع وعيده، ليتحقق معنى العدل، بزعمهم، فقاسوا أفعال الله، عز وجل، على أفعال العباد، فهم، كما قال أهل السنة: "مشبهة الأفعال"، الذين شبهوا فعل الرب، تبارك وتعالى، بفعل عباده، والصحيح: أنه ليس لأحد أن يوجب على الله، عز وجل، شيئا، وإنما هو الذي يوجب على نفسه ما شاء، كما في قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، فكتبها، عز وجل، على نفسه، رأفة بعباده، مع كمال استغنائه عنهم، والكريم إذا وعد أوفى، فوعد الله، عز وجل، لا يتخلف، لأن في إخلاف الوعد: نقصا مطلقا يتنزه عنه آحاد البشر، فرب البشر، عز وجل، أولى بتنزيهه عنه، فالمسألة من باب: "قياس الأولى"، فضلا عن ورود النص الصريح في ذلك، وهو الأصل في هذا الباب، وهو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، و: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)، و: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ).
وإذا أوعد، أي الكريم: فيجوز أن يمضي وعيده، ويجوز أن يخلفه، لفوات شرط، أو وجود مانع، كموانع نفاذ الوعيد من: استغفار وحسنات ماحيات ومصيبات مكفرات ........ إلخ، ويجوز أن يخلفه ابتداء، تفضلا منه.
ومن أقوال العرب التي يستأنس بها في هذه المسألة، قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ******* لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فالبيت في سياق المدح، فهو: يعفو عمن أوعده بإخلاف وعيده، وينجز وَعْده لمن وَعَده.
والله أعلم.
ومن ذلك أيضا: قوله تعالى: (وقال الذين كفروا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم)، فقوله: (ولنحمل) جاء بصورة الأمر، والمراد بها الخبر: أي: ونحن نحمل خطاياكم، وفائدة ذلك: تنزيل الشيء المخبر عنه منزلة المفروض الملزم به.
بتصرف من "مذكرة الأصول من علم الأصول"، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله، ص19.
وإلى هاتين الآيتين أشار ابن هشام، رحمه الله، بقوله:
"وكذا لو أخرجت، أي لام الطلب، عن الطلب إلى غيره، كالتي يراد بها وبمصحوبها الخبر، نحو: (من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا)، وقوله تعالى: (اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم)، أي: فيمد ونحمل".
بتصرف يسير من مغني اللبيب، (1/ 240).
ومنه قوله تعالى: (قلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ):
يقول أبو حيان، رحمه الله، في "بحره المحيط":
¥