"وفيهِ من الدلالةِ على انتفاءِ كونِهم كذلكَ على أبلغِ الوجوهِ وأقوَاها وعلى كونِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على قوةِ يقينٍ وثباتِ قدمٍ في بابِ التَّوحيدِ ما لا يَخْفى معَ ما فيهِ من استنزالِ الكفرةِ عن رُتبةِ المكابرةِ حسبمَا يُعربُ عنْهُ إيرادُ إِنْ مكانَ لَوْ المنبئةِ عن امتناعِ مقدمِ الشرطيةِ". اهـ
فلم يأت بأداة الشرط الدالة على الامتناع ابتداء إمعانا في تحديهم، وإظهار لقوة يقينه، والخصم إذا تنزل مع خصمه في الكلام كان ذلك أبلغ في إقامة الحجة عليه وأدعى إلى تأليف قلبه، فلم يغلق الباب ابتداء، ولم يتنزل معهم زيادة عن الحاجة، كأن يستعمل أداة الشرط: "إذا" التي تدل على رجحان وقوع المشروط، وإنما قدر الضرورة بقدرها فتوسط في الأمر باستعمال أداة الشرط "إن".
والله أعلم.
وقد تستعمل "إن" في أسلوب "الإلهاب"، كما في:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فهم مؤمنون ابتداء، ولكن الله، عز وجل، علق إيمانهم على امتثال الأمر، وهذا مما يلهب مشاعر المخاطب ويحمله على الامتثال، كما تقول لمن تريد حفزه على أمر ما: إن كنت رجلا فافعل، مع أنك تعلم أنه رجل ابتداء.
وإلى نحو ذلك أشار الشيخ ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب" في معرض كلامه على قول الشاعر:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ..........................
بقوله:
"وأجاب الجمهور عن قوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين) بأنه شرط جيء به للتهييج والإلهاب، كما تقول لابنك: إن كنت ابني فلا تفعل كذا". اهـ
"مغني اللبيب"، (1/ 48).
ومنه حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ قَالَ احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تُرِيَهَا أَحَدًا فَلَا تُرِيَنَّهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ)، فليس المقصود تعليق الأمر على وقوع الشرط، فلا يلزمه سترها إن لم يستطع، فيكون مفهوم الكلام: وإن لم تستطع فلا حرج عليك، فيكون ستر العورة مباحا لا واجبا، بل المقصود حفزه على سترها وصيانتها.
وقد تستعمل "إن" ويراد تحقق وقوع المشروط، بخلاف الأصل، كما في حديث عائشة، رضي الله عنها، مرفوعا: (قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ)، فالمشروط قد تحقق، لأن عمر، رضي الله عنه، محدَثُ هذه الأمة، وإنما نبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإيراد القضية على صورة الشرط نادر الوقوع على أن حاجة هذه الأمة إلى المحدثين أقل بكثير من حاجة من سبقها، لأن شريعتها أكمل من كل الوجوه من شرائع من سبقها، فلم يحتج المسلمون معها إلى محدثين، وإن وجدوا، فلا حجة في أقوالهم ابتداء، بل يجب عرضها على نصوص الوحي قرآنا وسنة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما محمد فبعث بكتاب مستقل وشرع مستقل كامل تام لم يحتج معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره ولا إلى شرع لاحق يكمل شرعه ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: (أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر).
فجزم أن من كان قبله كان فيهم محدثون وعلق الأمر في أمته وإن كان هذا المعلق قد تحقق لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر فلأن لا تحتاج معه إلى محدث ملهم أولى وأحرى وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي فأمكن حاجتهم إلى المحدثين الملهمين ولهذا إذا نزل المسيح ابن مريم في أمته لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد". اهـ
"الجواب الصحيح"، (1/ 482).
وقد ترد "إن" ويراد بها تثبيت المخاطب، وإن لم يكن شاكا ابتداء، كأن تقول لمن يصدقك: إن كنت شاكا في كلامي فاسأل فلانا، مع أنك تعلم يقينا أنه غير شاك فيك، فلا حاجة له في السؤال.
¥