وحياكم الله أيتها الأستاذة
ولكن عدم ذكر ابن كثير لهذه الرواية لا يعني عدم وجودها، فقد ذكرها ابن الأثير في الكامل:
لما خرج ملك الروم، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر إلى المعتصم، فلما بلغه ذلك استعظمه، وكبر لديه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجابها وهوجالس على سريره: لبيك لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته، وسمط خلفه شكالا وسكة حديد، وحقيبة فيها زاده، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة، وجمع العساكر، فجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد وهوعبد الرحمن بن إسحاق، وشعبة بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثاً لولده، وثلثاً لله تعالى، وثلثاً لمواليه.
الكامل في التاريخ.
وذكرها ابن خلدون في تاريخه:
(فتح عمورية) * وفى سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل ملك الروم إلى بلاد المسلمين فأوقع بأهل زبطرة لان بابك لما أشرف على الهلاك كتب إليه أن المعتصم قد وجه عساكره حتى خياطه يعنى جعفر بن دينار وطباخه يعنى اتياخ ولم يبق عنده أحد فانتهز الفرصة ثلاثا أو دونها وظن بابك أن ذلك يدعو المعتصم إلى انفاذ العساكر لحرب الروم فيخف عنه ما هو فيه فخرج نوفل في مائة ألف وفيهم من المجمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال وهزمهم اسحق بن ابراهيم بن مصعب فلحق بالروم وبلغ نوفل زبطرة فاستباحها قتلا وسبيا وأغار على ملطية وغيرها ومثل بالاسرى وبلغ الخبر إلى المعتصم
فاستعظمه وبلغه ان هاشمية صاحت وهى في أيدى الروم وامعتصماه فأجاب وهو على سريره لبيك لبيك ونادى بالنفير ونهض من ساعته فركب دابته واحتقب شكالا وسكة من حديد فيها رداؤه وجمع العساكر وأحضر قاضى بغداد عبد الرحمن بن اسحق ومعه ابن سهل في ثلثمائة وثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من الضياع ثلثا لولده وثلثا لمواليه وثلثا لوجه الله
تاريخ ابن خلدون
وذكرها ابن الجوزي في المنتظم:
وقد بلغنا أن امرأة مسلمة ببلاد الروم أسرت في حرب جرت بينهم وبين المسلمين، فجعلت تنادي: وامعتصماه.
فلما بلغه ذلك قال على فوره: لبيك لبيك. وتقدم فركب من ساعته وهو يقول: لبيك لبيك. فلحقه الناس حتى دخل أرض الروم، وأنقذ المرأة ونكأ في الروم.
المنتظم
وذكرها صاحب الروض المعطار:
ويقال إن المعتصم بلغه أن رومياً لطم أسيرة في زبطرة فصاحت: وامعتصماه، فأحفظه ذلك وأغضبه، فخرج من فوره نافراً عليه دراعة من الصوف بيضاء قد تعمم بعمة الغزاة، فعسكر غربي دجلة، ونودي في الأمصار بالنفير والسير مع أمير المؤمنين، فسالت العساكر
والمطوعة من سائر بلاد الإسلام، فمن مكثر يقول: سار في خمسمائة ألف، ومقلل يقول: سار في مائتي ألف، ولقي الأفشين أحد قواده ملك الروم فهزمه وقتل أكثر بطارقته ووجوه أصحابه، وفتح المعتصم حصوناً، ونزل على عمورية ففتحها الله على يديه، وخرج إليه لاوي البطريق منها وأسلمها إليه، وأسر منها البطريق الكبير باطس، وقتل فيها ثلاثين ألفاً، وأقام المعتصم عليها أربعة أيام يهدم ويحرق. وفي وصف هذه الحال يقول أبو تمام حبيب بن أوس الطائي قصيدته المشهورة التي أولها:
السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
يقول فيها:
يا يوم وقعة عمورية انصرفت منك المنى حفلاً معسولة الشنب
ألفيت جد بني الإسلام في صعد والمشركين وجد الشرك في صبب
يقول فيها للمعتصم:
لبيت صوتاً زبطرياً هرقت له كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
الروض المعطار في خبر الأقطار.
فأين الأسطورة؟
إن إنكار مثل هذا لا يكون بمجرد الادعاء، وإلا لأمكن لأي شخص أن ينفي ما شاء من الأحداث الثابتة.
ولا أدري كيف وافقت صاحب المقالة في قوله:
) غزو المعتصم في بلاد الروم وفتح عمورية ـ كما يذكر التاريخ ـ ليس من القتال في سبيل الله إذا صدق كتاب التاريخ في الرواية؛ فجيش المسلمين وأنفسهم وأموالهم لا تعرض للأخطار والأهوال غضباً ولا من أجل الحماية ولا لإظهار الشجاعة، وإنما يكون القتال لفرض واحد: أن تكون كلمة الله هي العليا، قال الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، وقيل للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، وفي رواية: ويقاتل غضباً، فمن في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" متفق عليه.
كيف يمكن الحكم على فعل المعتصم بأنه كان لإظهار الشجاعة الشخصية وأنه كان حمية شخصية لأن المرأة ذكرت اسمه، فهل شق هذا المدعي عن قلب المعتصم فعلم يقينا نيته ثم حكم بأن ما فعله لم يكن في سبيل الله، أي جرأة هذه نعوذ بالله منها.
الظاهر لنا أنها كانت حمية للاسلام ولأن حرمة المسلمين انتهكت، فغضب المعتصم لم يكن من أجل نفسه وإنما كان من أجل ديار الإسلام التي دخلها الروم فوجب الجهاد، ولو لم يلب المعتصم نداء تلك المرأة ولو لم يهب للدفاع عن أرض المسلمين لكان آثما، فالظاهر لنا أن ما قام به كان في سبيل الله، وإذا كان في سبيل الله ففي سبيل الله ترخص النفوس وتبذل الأرواح والأموال.
ويقوي لنا هذا الظاهر أن المعتصم فعل ما يفعله الذي يتوقع الشهادة، لأنه أوصى بثلث ماله لله وبالثلث لولده وبالثلث لمواليه.
فالمعتصم في هذه الواقعة كان ملتزما بما يوجبه الشرع، فيعد قدوة في ما يشبه هذه الواقعة من الواقعات، وإن كان مخطئا في مسألة خلق القرآن التي ورثها عن المأمون وكان متولي كبرها ابن أبي دؤاد.
أما عدم ذكر المعتصم بالعلم الشرعي، فكم من الولاة أو السلاطين أو الخلفاء حاشا الراشدين ذكروا بالعلم الشرعي؟ ولا يدعو أحد أن نجعل المعتصم قدوة في طلب العلم الشرعي، وإنا حمدت له هذه المنقبة وهي الانتصار للمسلمين الذين مثل بهم الروم وسبوا نساءهم، وهذا واجب كل من ولي أمر المسلمين.
(مع الاعتذار عن وجود أخطاء طبعية في المنقولات)
مع التحية الطيبة
¥