تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[التعصب للأقوال وآثاره]

ـ[أحمد الفقيه]ــــــــ[24 - 09 - 2009, 06:46 ص]ـ

التعصب للأقوال هو أكبر الأدلة عند من لا ينظرون في حجة المخالف بقدر ما يعبرون عن تعصبهم، وتمسكهم بهذا القول الذي قرع أسماعهم، وتشرَّبته عقولهم، كما أن الانحياز إلى أحد الاتجاهات أو المذاهب هو ما يعنيه ويعول عليه الذي لا يتأمل في الأدلة.

أما الحياد فهو ريبة العالم، فإن العالم لا يميل لشيء ولا يأخذ بشيء إلا بحجة وبرهان من الله u ، فربما تكون هذه المسألة أو تلك عند غير العالم مقطوعًا بها لا تحتاج إلى نظر ولا تأمل، ولكنها عند العالم قد تكون خطًأ، أو تحتاج إلى نظر وتأمل، أو على أحسن الأحوال هي صواب يحتمل الخطأ، لذلك يقول حرملة رحمه الله: إن الشافعي كان يقول لهم: (كل ما قلت لكم فلم تشهد عليه عقولكم وتقبله وتراه حقًّا فلا تقبلوه؛ فإن العقول مضطرة إلى قبول الحق) ([13]).

إن كثيرًا من الطلبة إذا اختلفوا مع شخص تنقصوه وهجروه، وربما تمنوا هلاكه، أو أن تنزل به فضيحة في علمه أو دينه أو في دنياه، حتى يشمتوا به، لفرط ما تشربت قلوبهم من ذلك، وهذا من سوء الرأي وضيق الأفق وقلة الدين.

وقد بلغ الشافعي رحمه الله أن رجلًا كان يدعو عليه في سجوده، ويقول: اللهم أمت الشافعي حتى لا يذهب علم مالك، فقال الشافعي رحمه الله:

تَمَنّى رِجالٌ أَن أَموتَ وَإِن أَمُتْ فَتِلكَ سَبيلٌ لَستُ فيها بِأَوحَدِ

فقلْ لِلذي يَبْغِي خِلافَ الذي مَضى تهيأْ لأخرى مِثلَها فكأن قد

وَقدْ عَلِمُوا لو يَنفعُ العلمُ عندهم لئن متُ ما الداعي عَلي بِمُخلدِ ([14])

ويقول الشافعي رحمه الله: (ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه في قلبه) ([15])،

أي: أنه إذا شعر بأنك سخرت منه وازدريته وتنقصته يتكون في داخله تمسك بهذا الشيء الذي قاله فيصر عليه ويتثبت صوابه في قلبه.

لقد لاحظت أن الشافعي رحمه الله كان عالمًا خبيرًا في النفوس متجردًا لله u ، فهو يشير إلى الطرق والوسائل التي من شأنها أن تجعل الآخر يقبل الحق، كما يشير إلى الأسباب التي تجعلهم يرفضون الحق، وينصرفون عنه.

لقد كان الشافعي رحمه الله خبيرًا بأدواء النفوس، عليمًا بكثير من مسالكها، وكان يستغل ذلك لدعوة الناس وإيصال العلم إليهم.

إن روح الحوار الموضوعي الرزين الذي يستهدف الوصول إلى الحق وليس الانتصار للنفس يحتاج إلى ترسيخ وتدعيم.

هذه هي قيمنا الأصولية في الحوار تبرز لنا على يدي رجل من أئمة الفكر الإسلامي الأصيل، فهو يرسخ بقوله وبفعله ذلك قبل أن يكون الحوار لغة عالمية تطرح اليوم في المجامع العالمية، ونحتاجها نحن المسلمين أكثر مما يحتاجها غيرنا، فنحن لا نملك القوة، لكننا نملك الحق، والحق إنما يظهر من خلال الحوار باللغة الهادئة، والأسلوب الجيد، والحجة التي تقرع أسماع الناس، فإذا فقدنا الحوار وفقدنا القوة فماذا بقي لنا؟!

إنني أقترح بجد على المدارس والمؤسسات العلمية والثقافية والمراكز التربوية: أن تحرص على تدريب شبابنا على لغة الحوار وأسلوبه، وأدب المناظرة، وكيفية فهم الآخرين والرد عليهم، وإعداد كتب وأشرطة ووسائل تعليمية في ذلك، فقد تحول الحوار اليوم إلى صراخ وضجيج وصخب، ونوع من السباب والمشاتمة، ولو كانت هذه هي لغة الحوار وهي الحجة لكان الجهال أولى بها من العلماء، وإنما هذا نوع من التردي الأخلاقي والسلوكي والعلمي يحتاج إلى استدراك من المربين والعلماء والمخلصين والدعاة، والمهتمين بأمر هذه الأمة.

وهنا كلمة لابن الجوزي لا بد من الإشارة إليها حول موضوع الحوار والخلاف بين الفقهاء وطلبة العلم، يقول رحمه الله: (رأيت جماعة من المنتسبين إلى العلم يعملون عمل العوام، فإذا صلى الحنبلي في مسجد شافعي -أي: صلى إمامًا- ولم يجهر –أي: بالبسملة- غضبت الشافعية، وإذا صلى شافعي في مسجد حنبلي وجهر غضبت الحنابلة، وهذه مسألة اجتهادية، والعصبية فيها مجرد هوى يمنع منه العلم.

قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله:

(رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول: العوام بل العلماء. كانت أيدي الحنابلة مبسوطةً في أيام ابن يوسف، فكانوا يتسلطون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع؛ حتى لا يمكنوهم من الجهر والقنوت، وهي مسألة اجتهادية. فلما جاءت أيام النَّظَّام ومات ابن يوسف، وزالت شوكة الحنابلة، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوا عليهم بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات، والفقهاء بالنبز بالتجسيم)، فكانوا يعيرون الحنابلة بذلك؛ لأنهم كانوا يثبتون الأسماء والصفات.

قال: (فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم تعمل بهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد؛ يصولون في دولتهم ويلزمون المساجد في بطالتهم) ([16]).

وهذا الكلام يذكرني بمقولة مشهورة تقول: (الأخلاق الجيدة إنما تظهر في أوقات القوة)،

أي أن المرء إذا افتقر –مثلًا- من الدنيا تظاهر بالزهد والإعراض عن الدنيا، وإنما هو زهد من حاول جهده أن يصل إليها فأبت عليه، وكما قيل: (ليس الزاهد فلان، وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، الذي أتته الدنيا فأعرض عنها).

منقول

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير