تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من صور الطغيان]

ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 11 - 2009, 05:20 م]ـ

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض حكاية حال بعض من ضل في باب الإرادة:

"يقولون: كل مصنوع الرب جميل لقوله: (الذي أحسن كل شيء خلقه) فنحب كل شيء وقد يستدلون بقول بعض المشايخ: "المحبة نار تحرق في القلب كل ما سوى مراد المحبوب" والمخلوقات كلها مراده وهو لا يقوله قائلهم فصرح بإطلاق الجمال وأقل ما يصيب هؤلاء أنهم يتركون الغيرة لله والنهي عن المنكر والبغض في الله والجهاد في سبيله وإقامة حدوده وهم في ذلك متناقضون إذ لا يتمكنون من الرضا بكل موجود فإن المنكرات هي أمور مضرة لهم ولغيرهم ويبقى أحدهم مع طبعة وذوقه وهواه ينكر ما يكره ذوقه دون ما لا يكره ذوقه وينسلخون عن دين الله وربما دخل أحدهم في الاتحاد والحلول المطلق ومنهم من يخص الحلول أو الاتحاد ببعض المخلوقات كالمسيح أو علي بن أبي طالب أو غيرهما من المشايخ والملوك والمردان فيقولون بحلوله في الصور الجميلة ويعبدونها.

ومنهم من لا يرى ذلك لكن يتدين يحب الصور الجميلة من النساء الأجانب والمردان وغير ذلك ويرى هذا من الجمال الذي يحبه الله ويحبه هو ويلبس المحبة الطبيعية المحرمة بالمحبة الدينية ويجعل ما حرمه الله مما يقرب إليه: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) ". اهـ

"الاستقامة"، ص302، 303.

فالسير مع كل وارد ذوقي يرد على الحس الباطن لملاءمته لنفس المتذوق لا يعني صحته في نفس الأمر، فليس كل ما كره الطبع بمكروه شرعا، وليس كل ما أحبه بمحبوب شرعا، وإلا تعددت الشرائع بتعدد الأذواق، فلكل ذوق، إذ لكل حس باطن يلائم ما جبل عليه من الأخلاق، كما أن لكلٍ حسا ظاهرا يتذوق به المطعومات فينتقي منها ما يلائم ما جبل عليه من الآلات البدنية، فليس كل طعام ملائما لكل طاعم، فمن الناس من يحتمل الحار لملاءمته لأرضه أو طبعه، وفي حديث خالد، رضي الله عنه، في أكل الضب: "وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ. قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ"، فلم يحرمه صلى الله عليه وعلى آله سلم لمجرد أن نفسه الشريفة قد عافته، فالذوق لا يصلح لتعليل الأحكام، وإنما تدور الأحكام مع علل معتبرة هي مظنة تحقق الحكمة، تدور معها: وجودا أو عدما، وإن تخلفت في بعض الجزئيات، فهي قواعد كلية تحكم جميع الأفراد، فالشرع قد نزل عاما بلفظه لا خاصا بسببه، فنصوصه تعم جميع المخاطبين إلا إذا وردت قرينة تخصيص كسائر ما اختص به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو اختص به بعض أصحابه، رضي الله عنهم، من أحكام لا عموم لمعانيها لتشمل من جاء من بعدهم، فليست نصوص الشرع العامة: واردات ترد على على أفراد بعينهم، فيروم أحدهم صيرورتها شرعا عاما ملزما لمجرد أنه قد ظهر له فيها وجه لذة أو منفعة، كثيرا ما تكون من تلبيس إبليس، فهي، وإن كان للنفس فيها حظ استمتاع وانتفاع عاجل، إلا أن آلامها ومفاسدها الآجلة تصد أي عاقل عن خوض لججها ابتداء، وذلك مما امتازت به الشرائع السماوية المطردة المحكمة عن الشرائع الأرضية المضطربة المفككة، فالأولى: تنظر بعين المآل إلى تحصيل أعظم قدر من المصالح المعتبرة ولو كانت آجلة لا تنال إلا على جسر من الآلام العاجلة، فألمها ألم اللقاح الذي يوجع الطفل أثره، ولكنه يقيه بعد ذلك من الآفات التي تأتي على الأصل بالبطلان، فاحتمال مفسدة الألم الجزئية التي يحدثها اللقاح في جزء بعينه من البدن أهون من احتمال المفسدة الكلية بترك اللقاح فيصير البدن عرضة لآفة قد تهلكه جميعا، فيكون تارك اللقاح آنذاك: قد أتلف الكل استبقاء للجزء!، وذلك مما ينقض قياس العقل الصريح الذي لا تأتي الشرائع بما يخالفه إذ المصدر واحد، فالرب، جل وعلا، هو خالق العقل ومنزل النقل، فكلاهما عن صفات كماله صادر، ولا يتصور تعارض أو تناقض في صفات حكماء البشر، ولله المثل الأعلى، فذلك ثابت له من باب أولى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير