[من كلام بعض الفضلاء في باب المشيئة]
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 10 - 2009, 05:29 م]ـ
من الإشارات اللطيفة لبعض الفضلاء المعاصرين في باب المشيئة: إشارته إلى أن حكمة الباري، عز وجل، في دار الابتلاء قد اقتضت: أن علق وقوع الأحداث الكونية على مشيئته النافذة، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ). فبوقوع الابتلاء بمقتضى القدر يكون رجوع العباد إلى ربهم على حد الاضطرار.
بخلاف دار الجزاء، ودار النعيم على وجه الخصوص، فإن من كمال النعيم فيها أن علق وقوع أجناس النعيم على مشيئة المتنعمين، على حد قوله تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)، فقدم ما حقه التأخير في شطري الآية: "لهم"، و: "لدينا"، فذلك جار على ما اطرد من دلالة ذلك على الحصر والتوكيد وذلك آكد في تقرير معنى المنة الربانية في دار المقامة، فضلا عن استيفاء القسمة العقلية، فلهم ما يشاءون فيها من أجناس النعيم فإذا اشتهى أحدهم شيئا وجده، حتى قال بعض أهل العلم بأنهم يعطون الولد إذا تمنوه، و: "لدينا" على حد التعظيم فذلك مئنة من عظم ما عند الرب، جل وعلا، لهم وهو ما دل عليه أيضا تنكير: "مزيد".
وهم مع ذلك لا استقلال لهم عن مشيئة الرب، جل وعلا، فهو الذي شاء أن تكون مشيئة المتنعمين في تناول أجناس النعيم مطلقة، وذلك جار على حد ما قيل في بقائهم فهو أبدي، ولكنه مع ذلك لا ينفك عن وصف الله، عز وجل، الفعلي، إذ هو المبقي لهم بإبقائه، بخلاف وصفه الذاتي فهو باق ببقائه الذي اتصف به أزلا وأبدا. فيقال هنا أيضا: لهم مطلق المشيئة بمشيئة الله، عز وجل، لهم ذلك، بخلاف مشيئته فهي من وصفه الذاتي القائم به أزلا وأبدا على الوجه اللائق بجلاله.
فمنشأ تعاسة كثير منا أنه يريد إجراء أحكام الدار الآخرة على الدار الأولى، فيروم وقوع كل ما يتمنى من المحبوبات، وامتناع كل ما يخشى من المكروهات، وليس ذلك بوصف الدنيا الصائرة إلى زوال، المكدر نعيمها بأنواع الابتلاء، إظهارا لحكمة الرب، جل وعلا، باستخراج المنح الشرعية من المحن الكونية، فيقع بالمصيبة، وإن كانت مفسدة في نفسها شرا باعتبار كونها مفعولا مقدورا فالشر منتف عن فعل وقدر الرب جل وعلا، يقع بها من المصالح في الدارين ما يفوق مفسدتها الطارئة، وذلك من أعظم صور الحكمة، فإن الأب، مع شدة شفقته على ابنه، يرضى في سبيل حفظ دينه وبدنه، بتعرضه لصنوف من الآلام، إذ بها تحصل منافع آجلة تظهر في مستقبل أيامه، ولله المثل الأعلى، فإنه يبتلي عبده ليعافيه، ويمرضه ليشفيه، ويفقره ليغنيه، بل ما أخرجه من الجنة إلا ليعيده إليها إن سار على ما جاءت به الرسالات من كمال العلوم المصلحة للباطن والأعمال المصلحة للظاهر.
فإن استقامت لشخص، مع مخالفته الشرع المنزل فاعلم أنه استدراج إذ سرعان ما تزول ويحل البلاء عقوبة، وغالبا ما يكون حال من ذلك وصفه: الجزع الشديد عند وقوع أدنى مصيبة كونية، فليس عنده من استحضار معاني الحكمة الربانية في تقدير المصائب ما يمنعه من الجزع والتسخط.
وإن استقامت لصالح فلا بد أن يعرض له، هو الآخر، ما يكدر عليه تلك النعمة، على حد التمحيص، فيكون الابتلاء في حقه منحة في صورة محنة، كما تقدم، فشتان الأول والثاني في الحقيقة مع اتحاد صورة الابتلاء الظاهرة، فهي عقوبة في حق الأول، مثوبة في حق الثاني، و: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
فطروء الابتلاء على كل العباد: مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، سنة كونية مطردة جرت على كل المكلفين حتى الأنبياء عليهم السلام بل لهم منها، عند التحقيق، أعظم نصيب.
فما صفت لمن هو أعلى منك رتبة فلا تطمع في أن يبدل الله، عز وجل، سنته الكونية النافذة من أجلك! فذلك عين المحال.
وذلك أمر يحكيه اللسان حكاية، ولا يظهر أثره في عالم الشهادة إلا حال نزول الابتلاء، فيثبت، جل وعلا، من شاء فضلا، ويخذل من خذل عدلا، فكم من ألسن رددته، فلما جرت على أصحابها سنن الابتلاء لم تقو قلوبهم على القيام بتلك المعاني الشريفات، وبقدر تحرير النية يكون صلاح الحال، وذلك أمر تتفاوت فيه المراتب تفاوتا لا يعلمه إلا رب القلوب ومصرفها تبارك وتعالى.
فاللهم يا مصرف القلوب: صرف هذه القلوب على طاعتك ولا تؤاخذها بما انطوت عليه من مادة الفساد، وزكها باستخراج تلك المادة بصنوف العلوم والأعمال النافعة الرافعة لأحداث النفس المزيلة لخبائثها.
والله من وراء القصد.