[عن الغيرة]
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 11 - 2009, 07:17 ص]ـ
من صور الغيرة:
ما حكاه ابن تيمية، رحمه الله، عن بعض العارفين، من قوله: لما سئل: متى تستريح؟، فقال: إذا لم أر له ذاكرا!.
وتلك غيرة غير حميدة، إذ قد أجرى صاحبها في حق الرب، جل وعلا، ما لا يليق به من صور الغيرة التي تقع بين البشر، فإن البشر قد جبلوا على الفقر والحاجة، وذلك ما يدفعهم إلى السعي إلى امتلاك الأعيان والأحوال، ولو أدى ذلك إلى نوع بغي وظلم، فلا يخلو جسد من حسد كما أثر ذلك عن بعض السلف، رحمهم الله، ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الْحَسَدَ " مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ. وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ فَقَالَ مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ لَا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمَهٌ فِي صَدْرِك فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا. فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ فَلَا يُعِينُونَ مَنْ ظَلَمَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ بَلْ إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ؛ لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ وَجَزَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْخَسُونَ حُقُوقَهُمْ فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ". اهـ
فالكريم يدافعه، واللئيم يسايره فيقوده ذلك حتما إلى التعدي على المحسود بإيصال الأذى له ولو كان معنويا غير محسوس، وهذا أمر ظاهر في عالم الشهادة لم يسلم منه إلا آحاد ممن امتن الله، عز وجل، عليهم بسلامة الصدر، وذلك أمر عزيز في هذا الزمان الذي صار معيار التقدم فيه: معيارا ماديا بحتا وهو ما يذكي نار المنافسة في غير موضعها، فيصير التنافس على تحصيل العرض الزائل من المنقول أو المسكوك لا على تحصيل النعيم الباقي من الرحيق المختوم.
فلا يوجد زوج في عالم الشهادة يرضى بأن يشاركه غيره في محبة زوجه، ولو لم يتعد على عرضه بقول أو فعل، فإن ذلك مما تأنف منه النفوس الكبيرة بل النفوس السوية، فلا يرضاه إلا نفوس قد ترسمت برسم الدياثة.
ولا يوجد نفس لا تتشوف إلى تحصيل صور الزينة من بنين أو قناطير أو مراكب، فذلك مما جبلت عليه، وإنما بعث الأنبياء عليهم السلام بما يهذب تلك الجبلة فلا تسرف ولا تعتدي، فلم يبعثوا لإماتتها برسم الزهد والفقر، ولم يبعثوا بترك العنان لها لتطغى وتتعدى طلبا لتحصيل حظوظها العاجلة.
وحال الأقران في كل زمان ومكان شاهد عدل على ذلك: فإنهم، وإن كانوا صالحين أخيار، فلا يخلو التنافس بينهم، إن كانوا بارعين أذكياء، من نوع مشاحنة وحظ نفس، ولذلك رد أهل العلم كلام الأقران في بعضهم البعض فيطوى ولا يحكى. ومن مأثور قول الذهبي، رحمه الله، في "ميزان الاعتدال": "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم". اهـ
فذلك إن تصور في حق العباد لما تقدم من وصف الفقر الجبلي الملازم لهم، فإنه لا يتصور في حق الرب، جل وعلا، الغني الذي لا يحتاج إلى غيره بل غيره إليه هو المحتاج، فكل حبيب في الدنيا يغضب إن شاركه غيره في محبوبه الأرضي، بخلاف ما لو شاركه محبة الرب العلي، تبارك وتعالى، فإن ذلك مما يسعده، بل هو أعظم غايات الرب، جل وعلا، من خلقه، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وهو منتهى سؤل أشرف الخلق من أقوامهم، فلسان الرسول الداعي: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، وعبادته إنما تكون بمحبته وخشيته، فإذا ازداد عدد المحبين، ازداد فرح النبي ومن سار على طريقته، فكيف تكون قرة العين في ضلال الخلق وغفلتهم عن الذكر؟!.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض حكاية طرف من ذلك:
"ومما يشبه هذا ما ذكره له مرة بعض أصحابنا الفقراء وفيه خير ودين ومعرفة أنه كان يصلي بالليل فقام آخر يصلي قال: فأخذتني الغيرة فقلت له: هذا حسد وضيق عطن وظلم ليس بغيرة إنما الغيرة إذا انتهكت محارم الله والله تعالى واسع عليم يسع عباده الأولين والآخرين وهو يحب ذلك ويأمر به ويدعو اليه فكيف يبغض المؤمن ما يحبه؟! ". اهـ
"الاستقامة"، ص346.
ولذلك كان من رحمة الرب، جل وعلا، أن شرع لنا من العبادات ما يستوفي أجناس الهمم، فتحا للذرائع الموصلة إلى محبته، فليست كل النفوس في الطاعة سواء فمنهم من يلج إلى محبة الرب، جل وعلا، من باب الصلاة، ومنهم من يلج من باب الزكاة ......... إلخ، وفي هذه الأيام المباركات يزداد عدد الطارقين لتلك الأبواب، وإنما المسدد من ألهمه الرب، جل وعلا، طرق الباب الملائم له، وأعانه على بذل السبب الموجب لولوجه، فليفتش كل منا في نفسه عن طاعة قد يسر الله، عز وجل، له أسبابها، ولو كانت صغيرة، فربما كانت هي سبب النجاة.
والله أعلى وأعلم.
¥