يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان أنواع من المحبة المباحة والمحبة المحرمة وأثر كلٍ في القلب:
"وعلى هذا يجري الأمر، (أي: ترجيح المصالح على المفاسد، أو المحبوبات على المكروهات) على محبة الإنسان للشيء الجميل من الصورة والنظر إليه وما يدخل في ذلك من قوة الحب والزيادة فيه التي تسمى العشق فإن ذلك إذا خلا عن المفسدة الراجحة مثل أن يحب الإنسان امرأته وجاريته حبا معتدلا أو يحب ما لا فتنة فيه كحبه للجميل من الدواب والثياب ويحب ولده وأباه وأمه ونحو ذلك من محبة الرحم كنوع من الجمال الحب المعتدل فهذا حسن.
أما إذا أحب النساء الأجانب أو المردان ونحو ذلك فهذا الحب متضمن للمحبة الحيوانية وليس في ذلك مجرد محبة الجمال والمحبة الحيوانية مما يبغضها الله ويمقتها وتوابعها منهى عنها مع ذلك سواء كان مع المحبة فعل الفاحشة الكبرى أو كانت للتمتع بالنظر والسماع وغير ذلك.
فالتمتع مقدمات الوطء فإن كان الوطء حلالا حلت مقدماته وإن كان الوطء حراما حرمت مقدماته وإن كان في ذلك رفض للجمال كما فيه رفض للذة الوطء المحرم فإن ما في ذلك مما يبغضه الله ويمقت عليه أعظم مما في مجرد الجمال من الحب المتضمن وذلك متضمن لتفويت محاب الله من التقوى والعفاف والإقبال على مصالح الدين والدنيا أعظم بكثير مما فيها من مجرد حب الجمال فلهذا كانت هذه مذمومة منهيا عنها". اهـ
بتصرف من: "الاستقامة"، ص317.
والأمر كما تقدم يخضع لقانون المصلحة والمفسدة، ذلك القانون الذي بعثت به الرسل عليهم السلام فلا تضبطه إلا نبوة فهو من الدقة بمكان فلا يدرك العقل منه إلا مجملات تفتقر إلى بيان النبوات، فكل يدرك معنى اللذة مجملا، فلا توجد نفس إلا وقد جبلت على حبها، ولكن الإشكال في فساد تصور معناها، فاللذة: مطلوب، ولكن تفاوت الإرادات العملية تبعا لتفاوت التصورات العلمية لها، يولد تفاوتا في الهمم يظهر جليا في متعلقات النفوس، فنفوس قد تعلقت بلذات حقيقية، فعلمت أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن الراحة لا تنال إلا على جسر من التعب فتجشمت مرارة الدواء العاجلة، وما أهونها لمن تدبر، طلبا للذة العافية الآجلة، وما أعظمها لمن تدبر، فعلم أن مفسدة المرارة العاجلة لا تعدل مصلحة اللذة الآجلة، وذلك، كما تقدم، ميزان دقيق، لا يضبط مكاييله إلا الأنبياء عليهم السلام.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فقد يفعل الشخص الفعل كشرب الدواء الكريه الذي بغضه له أعظم من حبه له وهذا لما تضمن ما هو محبته له أعظم من بغضه للدواء أراده وشاءه وفعله فأراد بالإرادة الجازمة المقارنة للقدرة فعلا فيه مما يبغضه أكثر مما يحبه لكونه مستلزما لدفع ما هو إليه أبغض ولحصول ما محبته له أعظم من بغضه لهذا فإن بغضه للمرض ومحبته للعافية أعظم من بغضه للدواء.
فالأعيان التي نبغضها كالشياطين والكافرين وكذلك الأفعال التي نبغضها من الكفر والفسوق والعصيان خلقها وأراد وجودها لما تستلزمه من الحكمة التي يحبها ولما في وجودها من دفع ما هو إليه أبغض فهي مرادة له وهي مبغضة له مسخوطة".
"الاستقامة"، ص313.
ونفوس قد تعلقت بلذات وهمية، فلم تدرك إلا العاجل، ولو كان حقيرا، فاستعجلته بالتفريط في الآجل، وإن كان جليلا، وهذا حال أغلب النفوس، فهي إن تركت لمقتضى الجبلة ضلت في مفاوز اللذات العاجلة، ولو كانت محرمة، وحجبت عن سلوك الطرق الموصلة إلى اللذات الكاملة في دار السعادة، فلا ترى إلا موطئ القدم، وذلك مئنة من ضعف العزم وخسة الهمة.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في كلمة جامعة لأطراف هذا الباب:
"فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خالصة أو راجحة واما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها فهذه أقسام خمسة منها أربعة تأت بها الشرائع فتأتي بـ: ما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به مقتضية له وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة أو تكميلهما بحسب الإمكان وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلهما بحسب الإمكان فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة وتنازع الناس هنا في مسألتين:
¥