تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ابتعد قليلاً، وأطفأ سيارته، "لم يَرُد عليَّ بكلمة، أمال رأسه وبدا لي أنه يريد أن ينام، لم تكن هناك سيارات، كأنها انقطعت، مضطرًّا اقتربت منه، كان يضع كوفيته على ثلثي وجهه، يبدو أنه يتقي بها برد الصباح، قلت: عشرة، عشرة، (خلاص)، افتح.

رجع سيارته إلى أن صار إلى (الشنطة)، ترجَّل وفتح الصندوق الخلفي للسيارة، أمسك (بالشنطة)، وجدها ثقيلة، استجمع نفسه وحاول ثانية، ووضعها بكلتا يديه، وأغلق الصندوق.

ركبت من الجهة اليمنى من الخلف، كما يركب كبار الشخصيات، لا تفارقني نظارتي التي أصلحها بين الحين والحين.

طالعتني لافتة أمامي: "ممنوع التدخين"، بخط بارز جميل وأحمر، وعليها زخرفة، يبدو أن كاتبها له معرفة جيدة بالعربية، لم أُعرها اهتمامًا، أخرجت علبة السجائر الأجنبية، تعمدت أن أريه "ماركتها" وأنا أقدمها له:

- تفضل سيجارة.

- لا أدخن يا أستاذ، وأمسك باللافتة يحرِّكها يمنة ويسرة، كأنه يحاول أن يلفت نظري إليها، لكني أشعلت سيجارتي بالولاعة الغازية المشهورة، التي كنت أحلم باستخدامها، خصوصًا في مثل هذا الموقف؛ لما تشعرني به من مكانة وأهمية، فتح النافذة اليمنى، وشعرت أنه متضايق، وقد جعل لدخان السيجارة مهربًا؛ ليبتعد عنه.

سألني بصوت هادئ: ماذا تعمل يا أخ؟

- أنا معلم.

- وكيف وجدت مهنتك؟

- ممتازة؛ لا تفارقني العصا، كنت أحلم أن أكون معلمًا لأستخدمها، كم هي مفيدة!

- وما حاجتك إلى العصا؟ المعلم لا يحتاج إليها.

امتعضت، وبدا لي أن هذا السائق "سائق يسفِّه رأيي الذي أعتز به، وأيضًا يعلمني، يجب أن أرد عليه ورفعت صوتي وقلت:

المعلم يحتاج إلى العصا، ومَن يقول بغير هذا، ليس له معرفة بالعلم، ولا بالتعليم.

تمتم بألفاظ لم أتبيَّنها، وكنت أتحفَّز للرد عليه بأسلوب أكثر عدوانية.

ثم عاد:

- على رأيك، شباب اليوم آراؤهم قاطعة.

شعرت بلهجة الهزيمة في كلماته، فوجدت نفسي مزهوة، "لقد أفحمته، وجعلته يتراجع عن قناعته لكني واصلت اندفاعي معتقدًا أني سأجهز عليه:

- يعني شباب اليوم، ألا يعجبونك؟

- لا، لا، يا بني.

- أنا لست ولدًا، أنا رجل، وجامعي، ومعلم!

- سامحني يا أستاذ.

ساد السيارةَ صمتٌ وسكون، إلا أن صوت المحرك قد انقطع أيضًا.

اعترتني راحةٌ ملأت نفسي، وخيل إليَّ أني بحجم العمارات التي تعانق بصري على طول الطريق التي نسلكها، وصرخت بأعلى صوتي، وقد رأيت السيارة تتجاوز بابَ المنزل: (بس، بس، من هنا، على يمينك).

توقف ثم رجع قليلاً، وصار عند الفتحة، واستدار إلى اليمين، وأشرت إليه: عند ذلك الباب الأخضر.

توقفَتِ السيارة، ونزلتُ أنتظره؛ لآخذ (شنطتي)، وأنقده الأجرة، أزاح كوفيته عن وجهه، أخذ ينفضها بكلتا يديه، "ترى هل ينظفها مما علق بها من دخان سجائري، أو من ألفاظي الحادة التي قذفتها في وجهه؟ ".

اعتراني شعور غريب ودهشة، عندما أعدت بصري إليه، رحت أقرأ معالم وجهه، وأنظر تضاريس جسده، فركت عيني، ترى هل أعرفه؟ معقول! هو؟ أين رأيته؟ تدافعت صور كثيرة أمام عيني كشريط سينمائي، يعبر سنوات العمر الماضية بسرعة هائلة، أبحث في ذاكرتي عن هذا الوجه، عن الرجل، وعندما أدار المفتاح في صندوق السيارة أمسكت يده.

بدهشة المفاجأة قال:

ما لك يا أستاذ؟ (في حاجة)؟!

- ألست أنت الأستاذ، الأستاذ؟

- أنا سائق هذا التاكسي، قد تكون واهمًا، يخلق من الشبه أربعين.

فتحت صندوق السيارة، وبنفسي أخرجت (شنطتي)، جعلتها عند باب المنزل، وقرعت الجرس.

بعد ممانعة شديدة منه، صعد معي إلى المنزل، "لعله ما زال تحت تأثير الحديث السابق".

- أهلاً وسهلاً، فرصة سعيدة، والله يا أستاذ نشرب الشاي، ونتناول "الفطور" معًا، بعض حقك العظيم.

أنت أستاذي، ولا أظنك بعد الآن تريد إخفاء نفسك، وضَعَ كوب الشاي، بعد أن أخذ منه رشفة، ونظر في وجهي، ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، تمامًا كما عهدتها عندما كان يفعل في الصف أحيانًا.

- نعم، نعم، أنا هو يا بني.

وقفت وأمسكت برأسه، ورحت أقبِّله، وتدافعت دموعي تغلبني وتبلل كوفيَّته التي أثقلتها عليه.

- أستغفر الله، اجلس، اجلس، أنت مثل أولادي، أنت الآن رجل (ولا لأ؟!)، وأخذتنا نوبة من الضحك الهستيري.

- ما زلت يا أستاذي أذكُرك، وكيف أنسى عندما وقفت خلفي وأنا لا أشعر بك، ألقي أمام التلاميذ "خطبة الحجاج"، أقلد طريقتك المحبوبة في الإلقاء؟ ويبدو أني أسعدتك؛ لأني أجدت بالفصحى التي كنتَ تحبُّها، أمسكت بكتفي، فارتعدت خوفًا من عقابك.

لكنك خيبتَ ظني، وقلت: شكرًا؛ أجدت، اجلس يا بني!

وجلستُ ولا أصدق، ولكني هذه المرة لا أستحق الشكر؛ لأنني لم أكن مُجيدًا.

القصة منقولة

ـ[السراج]ــــــــ[02 - 12 - 2009, 07:15 ص]ـ

قصة معبّرة بمعناها .. شكرا أختي الفاضلة.

كم أحوجنا للتطرق لمثل هذه الموضوعات.

لكني أتساءل: هل تعمّد الكاتب البوح ببعض الكلمات العامية على لسان المعلم ليرينا الجانب الآخر من عدم مبالاته؟

(لوك كانت الصور أصغر حجما، كان قراءة القصة أسهل قليلاً)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير