تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلت لصديقتي: إذا كان الشباب لا يقرأ، وهذا يقصيه عن اللغة، ويحرمه لذة الاكتشاف الذي تمنحه إياه، فإننا أيضا نسهم في إقصائه عنها، إننا في الحقيقة ننتزعه منها، إنّ العملية أشبه ما تكون بالانتزاع من الأرض والتهجير إلى أرض أخرى جديدة، لكنّ الأرض هنا ليست التي نطأها ونعيش عليها فتكون لنا موطنا، لنا وطن على الأرض، ولنا وطن من الكلمات، وطننا اللغوي، هذا الذي يشدنا إليه، ونحن نحاول جاهدين أن نتفلت منه، أن ننتزع أنفسنا وأبناءنا وأحفادنا من طينه الذي يكتنز برائحتنا، وتاريخنا، وديننا.

وسجل طويل من الذكريات المثقلة بالآلام والأحلام والانتصارات والهزائم، إننا نرتحل عنه رويدا رويدا، فأبناؤنا إذا قرأوا في المدارس أو البيوت سيقرأون كلمات ليست وطنهم، وهم إذا سمعوا أو تكلموا امتلأ الفضاء حولهم بأصوات ليست هويتهم، إنّ العلم اليوم يدرس بكلمات من وطن آخر، وطن له رائحة لا تشبه رائحتنا، طينه، ذراته، أرضه، سماؤه، أقماره، نجومه، كل شيء فيه ليس لنا ولا بنا، ولكننا نجتهد أن نقحم أنفسنا فيه، أن نصبح جزءا منه، إنه رحيل لا يرى رأي العين.

لأنه ليس رحيل الجسد من فضاء إلى فضاء، إنه رحيل الروح والعقل من لغة إلى لغة، حين يرطن أبناؤنا بكلمات الوطن الجديد، وحين تصبح للأشياء أسماء من كلمات الوطن الجديد، نحن في الحقيقة نغادر وطننا اللغوي إلى وطن جديد، فلا غرابة أن يكون الجيل اليوم جيلا ينظر إلى العربية على أنها شيء لا يحرك فيه تلك المشاعر التي نتحدث عنها أنا وأنت ومن هم مثلنا من أبناء الوطن القديم، لقد أرسوا رحالهم في مكان آخر، فكيف سيطربهم قول من مثل:

واحرّ قلباه ممن قلبه شبم

ومن بجسمي وحالي عنده سقم

وكيف ستكون لكلمات من مثل مجرة، وكوكب، وأحافير، وأوعية دموية، وإحصاء، وكسر عشري، وجذر مربع، و،. الخ أي صدى في عقولهم، وهم قد غادروا أرضها، وكبروا في أرض أخرى بكلمات مختلفة لها وقع لا يشبه وقع كلمات العربية؟ إن اليد التي تغرس الحكمة والمعرفة في عقولهم ليست يدا عربية، إنها حين تسوي الأرض وتربت عليها مرة أو مرتين، تفعل ذلك بروح الآخر المبتهج بانتشاره وسيطرته.

إنني أرى معظم الناس يرتحلون، رحيل يومي حثيث، إلى وطن جديد، وإذا كان الشباب اليوم ممن قد درس بالعربية معظم سنوات تعليمه يقول لك: نحن لا نفقه شيئا من العربية، وهي لا تطربنا ولا تجذبنا، فكيف سيكون حال من سيبدأ خطواته الأولى في اكتشاف العالم والأشياء بكلمات من وطن جديد؟ حق للأجيال القادمة أن نحفظ لها وطنها، وأن نحميها من أن تنتزع منه،. حق قد لا تطالب هي به لأنها لن تعيه، لكنه سيبقى عالقا في الضمير، شوكة منغرسة تدمي وتؤلم وتخز، هذا إذا كان في الضمير بقية من حياة.

جامعة الإمارات"

وجزاها الله عنا كل خير

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير