الأول - وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء - أن الأمر في قوله {أمرنا} هو الأمر الذي هو ضد النهي وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به {فَفَسَقُواْ} أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي وجب عليها الوعيد {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي أهلكناها إهلاكاً مستأصلا. وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة. كقوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} [الأعراف: 28] الآية. فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل وضح على أن قوله {أمرنا مترفيها ففسقوا} أي أمرناهم بالطاعة فعصوا. وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا. لأن الله لا يأمر بالفحشاء".
وأشار إلى القولين الآخرين في الآية بقوله:
"القول الثاني في الآية - هو أن الأمر في قوله: (أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أمر كوني قدري، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له. لأن كلاً ميسر لما خلق له. والأمر الكوني القدري كقوله {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50]، وقوله {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، وقوله {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 24]، وقوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
القول الثالث في الآية - أن «أمَرْنَا» بمعنى أكثرنا. أي أكثرنا مترفيها ففسقوا. وقال أبو عبيدة {أمرنا} بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد". اهـ
ودلالة الاقتضاء على محذوف أمر مطرد في لسان العرب، وقد جاء في التنزيل في مواضع عدة منها:
قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
أي: ويقولان: ربنا تقبل منا.
وقوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
أي: واجعل من ذريتنا.
وقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
أي: فيقال لهم: أكفرتم.
وقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)، و: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)
أي: نكاح أمهاتكم وأكل الميتة لأن التحريم لا يقع على الذوات وإنما يقع على الأفعال.
وقوله تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا):
يقول أبو السعود رحمه الله: " {فانفجرت} عطف على مقدّر ينسحب عليه الكلام قد حُذف للدلالة على كمال سُرعة تحقُّق الانفجار كأنه حصلَ عَقيبَ الأمرِ بالضرب أي فضُرب فانفجَرَتْ {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} "
وقل مثل ذلك في:
"الكلمات" فإن منها:
كلمات كونيات: كما في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ اللَّاتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ)
وكلمات شرعيات: كما في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ)
و: "الجعل" فإن منه:
¥