من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}، وقال: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}. وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة وحجج الجهمية معطلة الصفات وحجج الدهرية وأمثالها كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنفون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ففيها من الجهل والتناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد". اهـ بتصرف يسير
ويقول، رحمه الله، في "الصارم المسلول":
"ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجهه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال به الظن والحسبان.
والقدر الذي يمكن العقل إداركه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا في نبوة أو أثر نبوة وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات". اهـ
فالعقل تابع في ذلك فهو: أصل في العلم بالنقل، لا في ثبوته، اللهم إلا في تحرير أسانيده فإن أنظار النقاد قد تختلف في صحة إسناد أو ضعفه، ولكنها، إن صح السند، لا تقوى على معارضة الخبر الصحيح، لأن النقل ثابت قبل وجود العقل، فهو الأصل القديم، والعقل هو: الفرع الحادث، فكيف يعارض الأصل القديم بالفرع الحادث؟!!.
والعقل مقدم في أمور الدنيا من الصناعات الحديثة والابتكارات الجديدة كالحاسب الآلي وأجهزة الاتصال وغيرها من الوسائط المتعددة، فكل تلك الأمور من قبيل المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع باعتبار أو إلغاء، فيكون الأصل فيها: الإباحة، بل قد تكون واجبة إذا كانت ذريعة إلى واجب لا يحصل إلا بتحصيلها، وقد تكون مندوبة إذا كانت ذريعة إلى مندوب لا يحصل إلا بتحصيلها، وفي المقابل: قد تكون محرمة إذا كانت ذريعة إلى محرم، وقد تكون مكروهة إذا كانت ذريعة إلى مكروه، فتدور عليها الأحكام التكليفية الخمسة.
فمن ذلك حديث تأبير النخل، وفيه: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)، وليس من أمر الدنيا أمور العقائد والأحكام كما يزعم العقلانيون المعاصرون الذين حكموا العقل في أمور المعتقد الخبري والحكم العملي فصار العقل عندهم، مع اضطرابه وتفاوته، أصلا مفروضا، وصار النقل نافلة من القول، فإن وافق العقل فهو: شاهد لا حاكم، وإن خالفه فهو مردود الشهادة!!!.
والعقل مهما أوتي من براعة لا يملك إلا تصورا مبتورا، لا يرى إلا المصلحة العاجلة واللذة في الحال وإن ترتب عليها الفساد العاجل والألم الآجل، فلا يملك العقل تصورا مفصلا عما بعد هذه الدنيا، إذ ذلك من الغيب الذي لا يتلقى إلا من مشكاة النبوة، وإن كان العقل يدرك حتمية اليوم الآخر، فهو ضرورة عقلية، ولكن شتان ذلك الإدراك الإجمالي وإدراك الرسل التفصيلي، فالرسالة عمدة في باب: الغيبيات فهي: الصادقة، عمدة في باب الشرعيات فهي: الحاكمة.
ولذلك وقع من القصور في الدساتير الوضعية ما وقع، فهي تحتاج إلى تعديل مستمر تبعا لتغير الأمزجة واختلاف الأحوال، بخلاف الشرع الذي أنزله من يعلم مصلحة الخلق، إذ هو خالقهم، وأعلم بما يصلحهم حالا ومآلا، فضلا عن كون تلك الدساتير لا تنظر إلى ما بعد الموت، فهي ترى الدنيا: دار لذة مقصودة لذاتها، فتبيح من اللذات ما يخالف الفطر السوية والعقول المستقيمة طلبا لذات اللذة لا استعانة بها على تحصيل مطلوب أعظم، بخلاف الوحي المنزل، فإنه ينظر إلى الدنيا على أنها دار ابتلاء، فيبيح من اللذات ما يعين العبد على تحصيل اللذة الأبدية في دار البقاء، فلا يحرم جنس الشهوات مطلقا كما وقع من رهبان الهند وفارس وسرى ذلك إلى عباد النصارى ومتصوفة المسلمين، ولا يبيحها مطلقا، فتصير مقصودة لذاتها، وإنما يشرع منها ما يقضي وطر العبد، ويذكره بجنس اللذة الدائمة في الجنة، فيحمله ذلك على امتثال أمر الشرع، فيكون قد فاز بلذة الدارين: لذة امتثال الأمر وتحقيق العبودية للإله الحق، تبارك وتعالى، ولذة الجنة الأبدية، فهو أسعد الناس حالا وإن ابتلي بقهر أو فقر، وهو أسعد الناس مآلا في دار يقول أصحابها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)، فلا حزن على مستقبل، في دار السعادة الأبدية، ولا خوف على ماض قد انقضى، فقد غفر الله الذنب وشكر الطاعة، فأي نعيم أعظم من ذلك؟!!.
والله أعلى وأعلم.
¥