لا شك أن للعمر دوراً في رسوخ القدم في العلم و التمكن فيه، و قوة التحرير و التدقيق في المسائل، لكن ليس هو مقياساً و ميزاناً ثابتاً لتقدير علم العالم: كماً و كيفية.
و التأريخ حاكم على هذا الميزان _ الذي تعلق به من تعلق لتقييم بعض أهل العلم على بعض _ بالإبطال و النقض، و من قرأ السير درى الخبر.
رابعاً:التقييم بكثرة الطلاب.
إن الاحتجاج و الاستدلال على مدى علمية العالم و قوته بكثرة الطلاب أو قلتهم من الأمور التي لا يلتفت إليها إلا جهلة المنتسبين إلى طلبة العلم و لمّا يدركوا.
إيضاح ذلك أن الطلاب يكثرون عند الشيخ لأسباب، أجملها في:
(1) حسن أسلوب الشيخ و براعته في الشرح.
(2) ميول بعض الطلاب إلى الشيخ و محبتهم له _ و الحب يعمي و يصم _.
(3) مكانة الشيخ: العلمية، المنصبية، النسبية، … إلخ.
(4) التخصص، أو التفرد بنوع من العلم.
فلا عبرة بعد هذا بالتقييم بكثرة الطلاب.
و ليُعلم أن كثرة الطلاب عند الشيخ دليل _ في الغالب _ على خلل في التأصيل في الطلب.
خامساً:التقييم من خلال: الحب و البغض.
فبعض طلاب العلم يفضا فلانا على فلان لمحبته له و بغضه للثاني، و قد يكون الثاني أكثر علماً و قدراً، و هذا ظلم بيِّن ظاهر.
و هذا مما لا يحتاج إلى بيان و لا إيضاح فتوضيح الواضحات من الفاضحات.
هذه بعض الخلل الموجود في صفوف طلاب العلم في هذه الأزمنة _ و الله المستعان _.
و ليعلم المشتغل بالتقييم أنه مقبل على ربه _ تعالى _ و محاسبه على كل صغيرة و كبيرة فلا يعلقن في ذمته شيئاً من مثل هذه الأمور، و ليتق الله _ تعالى _ فإن لحوم العلماء مسمومة، و عادة الله في منتهكم معلومة.
سادساً: التقييم من خلال ما يريده الشباب من الكلام في بعض القضايا الساخنة، فنرى كثيراً من الناس كبَّرَ فلاناً (طالب العلم) لكونه قد أدلى بدلوه في بعض القضايا الحالَّة، أو أفتى بما تميل إليه رغبات الشباب _ و لا يعني ذلك أنه يفتي على رغباتهم؛ لا، و لكن يفتي بما يراه حقاً فيتعلقون به _ و أما من خالف ما يريدونه فذاك فيه و فيه، و من الصنف الفلاني.
و ليحذر من الحجة المهلكة _ التي قذفها الشيطان في قلوب بعض طلاب العلم _: الكلام في مثل هذه الأمور إنما هو بيان حالٍ، أو غيبة في ذات الله _ تعالى _.
تصحيح التقييم
إن التقييم أمرٌ ملحٌ في جانب حياة الإنسان: علماً، و نهجاً، و سلوكاً ...
فأقول _ و من ربي استمد العون _:
إن تصحيح خلل التقييم عائدٌ إلى أمورٍ هن أُسس و أصول:
الأول: التقييم الديني:
و أعني به: تقييم العالم من جهة دينه.
و هذا له فرعان:
1 - التزامه بالدين ظاهراً و باطناً.
فإن سلوك درب الاستقامة أساس في التقييم متين، و به التعديل و التجريح.
و متى تخلَّف فردٌ من أفراد الاستقامة _ التي شأنها الضرورة _ عن رجل من الناس كان ذلك ناقصاً من تعديله.
2 - الحمية للدين.
فإذا ما رأينا الرجل (العالم) ذا حمية على دينه حين انتهاك حرماته، و ذا قومة قوية في وجه من تبنى نشر الرذائل و تمكين أهل الفسق و الانحراف استحق بذلك أن يكون ممن له وزنه بين الناس معدَّلاً موثقاً.
و لا يستحق التقييم من نِيْلَ من دينه و انتهكت حرماته و لم تقم في قلبه قائمة الغيرة على الدين.
الثاني: التقييم العلمي:
المعنيُّ بالتقييم العلمي هو: أن يكون تقييم العالم من حيث كونه عالماً بدين الله تعالى، سالكاً في التعليم درباً مؤصَّلاً.
و أطمح من ذلك: أن يكون تقييم كل ذي علم بما لديه من علم، فلا يُتَجاوَز به إلى فوق مرتبته.
و عند إمعان النظر في أحوال الطلاب مع الشيوخ نرى ذلك جلياً في تخلف التقييم الأصيل لقدر الشيخ بعلمه، و نرى _ أيضاً _ الحطَّ على من نبغ في العلم قدراً كبيراً.
و التحكيم و الوزن راجع إلى ما في النفوس من سخائم، و ما في القلوب من تقديس.
فالتقييم للعالم يكون من جهة ما ناله من العلم: المؤصَّل المسلوك فيه طريق الفقهاء و الأئمة المعروفين.
و _ أيضاً _ من جهة كونه باذلاً العلمَ للطلاب على وَفْقِ أصول التعليم المقررة في كتب التربية و التعليم.
ثالثاً: التقييم الإبلاغي:
و أعني به: تقييم الشيخ من جهة كونه ممن أعطى دينه شيئاً من جهده الدعوي.
فمن الغلط: أن يكون تقييم شيخٍ وتفضيله وهو خِلْوٌ من أي همٍّ للتبليغ دين الله تعالى.
و من الغلط _ أيضاً _ هدرُ قَدْرِ شيخ بذل مهجته و نفسه و وقته لتبيلغ دين الله تعالى.
تنبيه: أشير إلى أمورٍ ذات بالٍ:
الأول: أن بعض العلماء العاملين في تبليغ دين الله قد يكونون ممن قارفوا شيئاً من المخالفات _ فيما يظنها المقيِّمُ أنها مخالفة _، فلا يعني ذلك أن يكون حاظياً بهدم قدره عند المقيِّم.
الثاني: أن الاعتبار بالتبليغ في القدر الواجب من الدعوة إلى الدين و الحق.
فليس مراداً لي _ البتة _ أن يكون همه التبليغ و الدعوة بمعنى: أن يكون عاكفاً ليل نهار، لا و لكن مرادي أن ذا بذل مناسب لقدره و مقامه العلمي.
الثالث: عند التقييم يلاحظ أمرٌ مهم؛ و هو: اعتبار المسائل الخلافية في الشريعة، فلا تأتي إلى رجل عالمٍ يأخذ من لحيته فتفسقه و تحطُ من شأنه لأنه يأخذ من لحيته.
فهذا سوء فهم، و ليس تقييماً علمياً؛ إذ ما قام هو بأخذ لحيته إلا لما صح عنده جوازها، كما أن من لم يأخذ ما ترك الأخذ إلا لما صح عنده عدم جوازه.
فليست المسائل كلها مُجْمَعٌ عليها.
و الله الموفق
كتبه
ذو المعالي
الخميس 19/ 2/1423هـ
[email protected]
¥