أَجَلْ سيستجيب لنا هَؤلاءِ الناس عندما تستقر الدعوة في قلوبهم، وتعظم خشية الله عندهم، وتعظم الرغبة في الجنة .. وعندئذ يصبح ما كانوا يكرهونه حبيبًا إلى نفوسهم. ومن الأمثلة على ذلك موقف الداعية في وسطٍ أَلِفَ السفور والحسور والتبرج، أو ألِفَ الموسيقى والغناء .. لو بدأناهم بإنكار هذه المُحرَّمات، وهي تستحقّ الإنكار لأعرضوا عنا، وعن دعوتنا .. ولكنّنا لو أخرَّنا التعرُّض إليها؛ حتى نطْمَئِنَّ إلى أن إيمانهم أصبح قويًّا، وأن الخوف من الله يملك عليهم تصرفاتهم، لاستجابوا لنا في إنكارها، وانقادوا إلى الحق راضين طائعين.
عن عائشة – رضي الله عنها - أنها قالت:
"إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل، فيها ذكر الجنّة والنار، حتَّى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام. ولو أنزل أول شيء (لا تشربوا الخمر)، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل (لا تزنوا) لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا"؛ رواه البخاري برقم 4993.
قال الأستاذ سيد قطب:
"لقد جاء هذا القرآن؛ ليربي أمة؛ ويُنْشِئ مجتمعًا، ويقيم نظامًا. والتربية تحتاج إلى زمن، وإلى تأثير وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثُّر والانفعال إلى دافع، والنفس البشرية لا تتحوّل تحوُّلاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة، بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد، إنما تتأثَّر يومًا بعد يوم بطُرُقٍ من هذا المنهج، وَتَتَدَرَّجُ في مراقيه رويدًا رويدًا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئًا فشيئًا، فلا تجفل كما تجفل لو قُدّم لها ضخمًا ثقيلاً عسيرًا، وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية، فتصبح بالتالي أكثر استعدادًا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشدّ قابلية لها والتذاذًا بها" [2] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2123#_ftn2) والتدرج في التشريع وسيلة من وسائل رعاية المجتمع الإسلامي؛ مخافةً من الله؛ ورغبة في ثوابه، وحبًّا في التزام هَدْيِهِ.
كان تحريم الخمر على مراحل؛ كما هو معروف.
- نزل أولاً قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
فلم تصرّح الآية بطلب الكف عنهما، ولكنّها اكتفت بذكر أن إثمهما أكبر من نفعهما، وفي ذلك تهيئة النفس لقبول ما سينزل من الآيات بحقّهما.
- ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ... } [النساء: 43].
وفي هذه الآية نجد المنع من الصلاة حالة السُّكْر، ومعلومٌ أنَّ المسلم مكلَّف بالصلاة في أوقات متقاربة لا يذهب خلالها أثر السُّكْر؛ فكان ذَلِكَ سببًا في ترك شُرْب الخمر سحابة النهار، فكان الصحابة إذا صَلَّوُا العشاء سَكِر مَنْ أراد منهم السُّكْر، وفي ذلك تدريب على تركها مدّة طويلة من يقظة الإنسان.
ثُمَّ نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ والمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90–91].
فانتهى المسلمون عن شربها، وأهرقوا ما في دورهم منها [3] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2123#_ftn3).
إنّ على الداعية إلى الله أن يفيد من السيرة النبوية في دعوة الناس، فذلك أدعى إلى نجاحه في مهمته.
والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2123#_ftnref1) انظر شرحنا للحديث في كتابنا: "الحياة الاجتماعية في ضوء السنة".
[2] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2123#_ftnref2) في ظلال القرآن 5/ 2562.
[3] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2123#_ftnref3) انظر كتابنا "لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير" ص 60 وما بعدها.
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2123
ـ[نبيل الجزائري]ــــــــ[09 - 03 - 08, 02:38 م]ـ
جزاكم الله خيرا
و للشيخ عدنان عرعور بحث مفيد في هذا الباب بعنوان منهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر