[ظاهرة المختصرات في التراث الإسلامي]
ـ[ابو عبد المحسن]ــــــــ[28 - 03 - 08, 11:58 م]ـ
[ظاهرة المختصرات في التراث الإسلامي]
29 - 2 - 2008
بقلم د. محمد الفقيه"
... مكان المختصرات الواضحة هو في بداية الطريق , ذلك حتى يؤسس نفسه تأسيسا صحيحاً , ثم ينصرف بعد ذلك للأمهات والمطولات فمن خلالها يتعلم الملكة ويتفق ذهنه للإبداع وكلما قرب من عهد السلف كانت أكثر بركة وتأثيراً , وإن كان عنده همة للحفظ فليصرفها للكتاب والسنة فهما أولى ... "
لا يعتبر الاختصار في حد ذاته ممدوحا دائماً أو مذموما دائما , وإنما يمدح إذا حقق مقصد المتكلم , أما إذ1 قصر عن مقصد المتكلم فلا يكون ممدوحاً , وهو أحد القدرات الكلامية التي لا يتقنها كل أحد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه بقوله: " أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصارا" [أخرجه أبو يعلى في مسنده، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2864)].
فكان صلى الله عليه وسلم يأتي بالألفاظ القليلة الجامعة لمعان كثيرة , وترى الحديث في كلمات معدودة وإن طال في بضعة أسطر ونادراً ما يتجاوز الصفحة الواحدة ثم تجد المعاني الغزيرة والفوائد الكبيرة المستقاة من الحديث الواحد. وقد كان الفصحاء يتبارون في الكلام المختصر الذي يسير على ألسنة الناس ويسهل حفظه وتداوله.
وحينما بدأ التأليف في العلوم الإسلامية كان نفس الاختصار حاضراً في أذهانهم وطرائق تأليفهم , وهذا الموطأ ألفه الإمام مالك ثم ما زال يختصر فيه ويهذب حتى استقر على حجمه المعروف بين أيدينا وقد كانت المصنفات في الحديث من أوائل ما صنف قبل أن تنفر من العلوم , كان المحدث يطوف أقطار الأرض لتتبع رواة الحديث وكتابة ما لديهم حتى تجتمع عنده أحاديث كثيرة , فإذا حط عصا الترحال في بلده أو بلد آخر يختاره , أخذ الأوراق الكثيرة التي جمعها أثناء رحلته الطويلة ولخصها ثم أخرجها في كتاب ينتفع به الناس , وهو يعلم أنه لو كتب ما اجتمع عنده لطال ذلك جداً وعسر على الطلاب تحصيله فضلاً عن دراسته , وتأمل في اسم صحيح البخاري " الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " وكذا الترمذي " الجامع المختصر من السنن ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل ".
مع ما يذكر في تراجمهم من حفظ الواحد منهم لمآت الآلاف من الأحاديث إلا أنك ترى كتابه لا يتجاوز عشرة آلاف غالباً نتيجة للاختصار. ولم يأخذ الاختصار شكله الذي استقر عليه غالباً دفعة واحده بل تدرج شأنه شأن سائر فنون التصنيف في العلوم الإسلامية , ولذلك يصعب تأريخ ابتداءها تحديداً , بمن بدأت , وقد حدد ابتداءها الحجوي الثعالبي في القرن الرابع الهجري فقال: "إنه في القرن الرابع بدأت فكرة الاختصار والإكثار من جمع الفروع بدون أدلة , فبعد ما كانوا في القرن الثالث مصنفين مبتكرين كأسد بن الفرات و سحنون , وابنه , و البويطي , ومحمد بن الحسن , وأمثالهم , صار الحال في القرن الرابع إلى الشرح , ثم الاختصار والجمع , فانظر الفضل بن سلمه وابن أبي زمنين , وابن أبي زيد وال براذعي اختصروا " المدونة " في عصر متقارب , وهكذا نظراؤهم في عصرهم من المذاهب الأخرى كا لمزني حيث اختصر مذهب الشافعي , والاختصار لا يسلم صاحبه من آفة الإفساد والتحريف , فقد اعترض عبد الحق الاشبيلي مواضع من مختصر ابن أبي زيد القيرواني وال براذعي أفسدها الاختصار , وهكذا المزني اعترض عليه ابن سريج ... ولا يخفى أن الاشتغال بإصلاح ما فسد هو غير الاشتغال بالعلم نفسه , فالرزية كل الرزية في الاشتغال بالمختصرات" [الفكر السامي 2/ 146, 147].
ولعل هناك عدة عوامل ساهمت في ظهور المختصرات كفن من فنون التأليف وتطور الاهتمام بها حتى زاحمت المطولات في اهتمام العلماء وطلاب العلم حتى أصبحت مؤخراً العمدة في الدروس والطلب وحتى الفتوى. من هذه العوامل الحاجة التعليمية , فحينما يعاني العالم تدريس العلوم ويريد كتاباً يكون عليه مدار درسه خاصة لمن هم في مرحلة الطلب , يجد الصعوبة في التعامل مع المطولات , حيث يطول على المعلم والطالب تتبعه ويستوعب زمناً طويلاً في تدريسه , وكثير ما يكون المخاطب به شريحة العلماء , فلا يستطيع الطالب استيعاب معظمه , ويؤدي إلى تشتيته. فيستفيد إن استفاد معلومات ولا يستفيد
¥