تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وتعويدها العبادة والتدرج فيها، ولابد من الصبر في البدايات على تعب العبادات وحمل النفس عليها تارة وتشويقها إليها أخرى حتى تذوق حلاوتها، فالتعب إنما يكون في البداية، ثم تأتي اللذة بعد كما قال ابن القيم: السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق، فصارت قرة عين له وقوة ولذة.

وقال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.

وقال بعضهم: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فمازالت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك، والأمر كما قال ربنا تعالى: -والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين- >العنكبوت: 69ومايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه

قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي -وقال مرة: فوض إلي عبدي- فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل< .. فهذا مثال وعلى مثلها فجاهد.

خامسها: الإكثار من الخلوة بالله تعالى

فيتخير العبد أوقاتاً تناسبه في ليلة أو نهاره، يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه، يبث له شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه، فلله كم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليات على القلوب؟!

وقد قيل لبعض الصالحين لما أكثر الخلوة: ألا تستوحش؟ قال: وهل يستوحش مع الله أحد؟! وقال آخر: كيف استوحش وهو يقول: وأنا معه إذا ذكرني؟!

قال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به.

وكان ثابت البناني يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحداً الصلاة في قبره فاعطني الصلاة في قبري.

وقال سفيان الثوري: إني لأفرح بالليل إذا جاء، وإذا جاء النهار حزنت.

ولقد بلغت لذة العبادة وحلاوتها ببعض ذائقيها إن قال من شدة سروره: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه - يعني من النعيم - لجالدونا عليه بالسيوف.

وقال آخر مبدياً حزنه وتأسفه على الذين لم يشهدوا هذا المشهد: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها .. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله معرفته وذكره.

- وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

إنها الجنة التي لما دخلها الداراني قال: إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم .. وإنه لتأتي على القلب أوقات يرقص فيها طرباً من ذكر الله فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.

إنها الجنة التي تنسي صاحبها هموم الحياة ومشاقها، بل تنسيه تعب العبادة ونصبها، وكلل الأبدان وملالها، بل وتنسيه الجوع والظمأ، فتغنيه عن الطعام وتعوضه عن الشراب، فهو بها شبعان، كما في حديث نهي النبيصلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقيل له: إنك تواصل، قال: >إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني< -رواه البخاري ومسلم-.

يطعمه اللذة والأنس والبهجة، كما قال ابن القيم: المراد مايغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان.

وبلوغ ما بلغه السلف في هذا الباب يحتاج إلى بذل أسباب بذلوها وسلوك سبيل سلكوها:

فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين

وكل الذي فوق التراب تراب

سادسها: ترك المعاصي والذنوب

فكم من شهوة ساعة أورثت ذلا طويلاً وكم من ذنب حرم قياس الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب ابن الورد حين سئل: أيجد لذة الطاعة من يعضي؟ قال: لا .. ولا من هم.

فأعظم عقوبات المعاصي حرمان لذة الطاعات وإن غفل عنها المرء لقلة بصيرته وضعف إيمانه أو لفساد قلبه .. قال ابن الجوزي: قال بعض أحبار بني إسرائيل: يارب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، إليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير