-أن الممتحِن بإظهاره قول المبتدع يُكوِّن أتباعاً، أو مستمعين لصاحب البدعة؛ بل ومعجبين بطريقته؛ فكان رضاه هو بعدم إعلان خواطره خيراً من امتحانه، وإظهارها للناس.
وقد دل هدي النبي صلى الله عليه وسلم على الإعراض عما ظهر فيما أعلنه المنافقون من كلمات الكفر، وجُعلت أسماء المنافقين سراً عند بعض أصحابه، وما نعموا به من مزايا المجتمع المسلم بقبولهم أعضاء فيه تجري عليهم به أحكام الإسلام الظاهر، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أعيانهم، ولم يوجه هذا إلا بأنه صلى الله عليه وسلم اعتبر السياسة ووازن بين المصالح والمفاسد.
فإذا كان هذا هديه فيما ظهر من الكفر فما الظن به فيما أخفاه الناس من المعتقدات؟
وهذا يختلف عن البحوث العلمية والكتب التي تتخصص في عقيدة عالم معين؛ إذْ إن هذا عمل علمي يراد منه جمع آرائه وتنسيقها وموازنة القواعد الجامعة لكلامه.
3 - أن توجه التعرية والإسقاط للقول المخالف لا لقائله:
إذا كانت المخالفة في قضية علمية أو منهجية وقد أعلن صاحبها قوله أو منهجه فلا إشكال هنا في ذكر القول والقائل، وقد درج العلماء على ذلك حتى في المسائل الفقهية التي يقوى فيها الخلاف دون تجريح أو اتهام للنيات؛ فما الظن في القضايا المنهجية؟
وكذلك لو كان النقض على كتاب معين؛ فلا تثريب في ذكر الكتاب والكاتب.
وهذا كله لأن كاتبه رضي بإظهار رأيه وقرن اسمه به؛ فلم يعد بذلك ملكاً له؛ بل صار مشاعاً لجميع الأمة.
ولكن تقع صورة أخرى تزيد على ما ذُكر وهي توجيه الجهود لإسقاط شخص معين بسبب مخالفة منهجية معينة، وذلك بطريقين:
الأولى: التجريح الشخصي، وتسخير قواميس الهجاء لتشويه صورته عند الناس؛ وذلك بتكفيره أو جعل وصف المبتدع قرينا لاسمه، تنفيراً للناس من الاستماع إليه، والتأثر به، وربما أدخلوا مع ذلك بعض السلوك الشخصي؛ كسيرته الأخلاقية أو المالية أو العائلية.
الثانية: جمع أخطائه ومخالفاته حتى في المسائل الاجتهادية؛
لتكون في موضع واحد، وذلك لتتجمع أجزاء الصورة التي تجمعت في ذهن مخالفه لتكون مجتمعة واضحة عند بقية الناس، وذلك ليحذروا ما قاله أو ما سيقوله.
وصارت هذه الطريقة تُسمى في الوقت الحاضر بـ "منهج الإسقاط والتعرية" أي أن يُسقط الشخص من أعين الناس، ويعرى على حقيقته أمامهم.
وإذا أردنا محاكمة هذه الطريقة إلى منهج الكتاب والسنة، ومقتضى السياسة الشرعية، وقواعد المصالح والمفاسد فإن الناظر في هديه صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يستخرج قاعدة كلية وهي أن الأصل في نشر العلم، والنقض على المخالفين هو البيان العام، وأن الاستثناء أو النادر هو ترك بيان بعض العلم في أحوال خاصة رعاية لمصالح أعظم، أو درءاً لمفاسد أكبر.
كما أن الأصل في التعامل مع الأفراد المخالفين هو ترك بيان اسمه، والإعراض عن الدوران حول ذاته، وإذا وقعت التسمية فإنما هي على وجه الندرة والاستثناء.
وهذا ظاهر بيِّن في منهج القرآن حين لم يذكر أسماء المشركين في مكة، ولا أسماء المنافقين في المدينة؛ كما جعل صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين سراً عند بعض أصحابه رغم شدة خطرهم.
ولكن حين كان الأمر يتعلق ببيان العلم والرد على الأقوال الباطلة وفضح شبه المشركين وطرائق المنافقين فإن منهج القرآن والسنة كان قوياً حاسما لا مواربة فيه، وما ذلك إلا لأن الإعذار والإنذار الذي لأجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وأخذ الله به الميثاق على الذين أوتوا العلم لا يتحقق إلا بهذه الطريقة الواضحة من العرض والبيان، وإذا تحقق مقصود البيان فلا يبقى أثر وفائدة تذكران لتسمية الأفراد في ظل تحقق هذه المقاصد العظيمة.
ولهذا كان بعض الناس في هذه المسألة طرفي نقيض فمنهم من كرس حياته للدوران حول ذوات أشخاص المخالفين لحربهم، وأهمل ما هو أهم من ذلك وهو المنهجية العامة في البناء العلمي والتربوي سواء كان ذلك بنشر العلم أو بالنقض على المخالفين ورد شبههم دون جعل الشخص محوراً لذلك.
ومنهم من أهمل البيان العلمي والتربوي وحتى الرد المنهجي الذي لا يستهدف الأشخاص تغليبا لمراعاة شعور الأفراد بالامتعاض حين تُنقض مناهجهم، وتُبيَّن أخطاؤهم.
¥