-أن ذلك يحول أنظار المدعوين من تأمل الفكرة إلى تأمل حال الشخص، وهل ما يقوله عنه صحيح أم لا؟ وهنا تضيع الفكرة نفسها، ولا يحصل مقصود الشريعة في إظهار الحق وإزهاق الباطل.
وليس للمسائل المستثناة التي يكون التنفير من المخالف فيها جائزاً، أو ممنوعاً ضابط محدد ينتظم جميع الأحوال؛ إلا قواعد المصالح والمفاسد التي يُنظر فيها إلى اعتبارات كثيرة؛ كدرجة الخلاف قوة وضعفاً والزمان والمكان والأشخاص وحال المُنْكِر نفسه، وحال المخالف وأتباعه، وأثر تعريته على الناس سلباً أو إيجاباً، وقوة أهل الحق وضعفهم.
ومما يضبط هذه المسألة أن يوكل هذا إلى علماء السنة الراسخين، وأن لا يتصدى لها غيرهم إلا بمشورة أولئك العلماء؛ لا أن يستبد الواحد من طلاب العلم بذلك، لما له من أثر خطير في شق الصف، وتمزيق الأمة، وتضييع المصالح والحقوق.
والمعنى المرفوض هنا هو أن يغير المرء معتقده لأجله، أو أن يسكت عن الحق مع قدرته على بيانه؛ دون قدح في شخص أو مؤسسة.
أما الثبات على الأمر والتبيين بالحسنى مع الاحتفاظ بحقوق الآخرين فهو المنهج الذي قادت الأدلة إلى صحته واعتباره. د
4 - أن لا يهجره إلا في موضعه:
يقال في الهجر ما قيل في التنفير والتعرية بأنه لا يُشرع إلا لمصلحة، أو درء مفسدة، يكونان أعظم من فسدة قطيعة مسلم.
وذلك مبني على أصل عظيم، وهو بقاء حقوق الإسلام حتى يخرجنا منها يقين مصلحة الهجر، أو يقين مفسدة التواصل.
أما قول المخالف وفعله سواء كانا مبنيين على اجتهاد سائغ، أو تقليد جائز، أو على غير ذلك من المخالفة للقطعيات؛ فإن بيان دين الله وتعليم العلم والدعوة إليه من أعظم القرب وأحسن الأعمال؛ فكيف إذا كان هذا البيان دعوةً إلى أصل، أو توضيحاً لضروري؛ فإنه من أفضل الأعمال وأوجبها، وإنما قد يُراعى تأخير بيان بعض الأمور رعاية لمصلحة أعظم، أو مفسدة أشد؛ لمعنى في المخالف أو في غيره.
وهذا هو الذي تميز به أهل السنة والجماعة وهو أنهم جمعوا بين طرح منهجهم بجلاء لا يجاملون فيه أحداً من بيان مسائل الدين الكبار، ومحاربة البدع قولاً وفعلاً، وبين معاملة أشخاص المخالفين بما تقضيه الشريعة، ويحقق مقاصدها بقواعد المصالح والمفاسد وأسس العدل والإنصاف، والرحمة الإحسان، وعلى ذلك مضى الأئمة
5 - أن يتعاون معه على وجوه البر إذا غلبت مصلحة ذلك:
حيث تقرر أن العلاقة مع المخالفين ـ بما فيهم المبتدعة ـ مبناها على قواعد المصالح والمفاسد فإن هذا لا يقتصر على العلاقة السلبية وهي الهجر أو عدمه، وإنما يتجاوزه إلى العلاقة الإيجابية البناءة، وهي التعاون معه على وجوه البر؛ بما لا يؤثر على القاعدة الكلية في اعتبار الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهذه ليست خاصة بالمبتدع، وإنما تنتظم كل مخالف.
وأخطأ قوم فجعلوا مسألة التعاون مع المبتدع ممنوعة في كل حال على كل شخص، بناء على اعتقادهم أن سبب المنع نص يحرم ذلك؛ كنص تحريم الكذب والغيبة، والصحيح ما تقرر في هذه الورقة من أن ذلك مبني على السياسة الشرعية وقاعدة المصالح والمفاسد؛ فما أنتجه إعمالها وجب العمل به والمصير إليه، ولا يختص التعامل مع المبتدع بذلك؛ بل هو شامل لكل ما لم يرد فيه نص بالمنع أو الإباحة، وحصل فيه التعارض بين المصالح والمفاسد عند العمل به.
وأكثر ما يشتبه هنا ما يراه البعض من أن في التعاون مع المخالف تزكية له، وإضفاء للشرعية على أعماله؛ مما ينتج دعما لبدعته وتكثيرا لسواده. وهذا قد يكون حقا في بعض الأحيان، ولكن لنحذر هنا أعظم الحذر من الأوهام التي تغذيها المعاني الترابية من حزبية أو إقليمية أو تاريخية رسخها ترك النظر والاستدلال؛ فهو أعظم ما يحجب عن رؤية الحقيقة في هذه المسائل؛ لاسيما وأنها مسائل تقديرية.
ومن الأدلة على مشروعية التعاون معه ودعمه في ضوء تلك القاعدة:-دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين إلى القتال مع المؤمنين، حيث خلدها القرآن على لسان عبدالله بن حرام رضي الله عنه حين قال: " تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ".
-رواية المحدثين عن أهل البدع، وقد كان الأئمة؛ كالبخاري ومسلم وغيرهما يروون عنهم دون أن يجعل وصف المبتدع قرينا لاسمه. وكذلك ما قرره العلماء الذين كتبوا في السياسة الشرعية والأحكام السلطانية من جواز شهادة أهل البدع في الحقوق.
-ومن ذلك ترجمة علماء أهل السنة لكثير ممن وقع في بدعة تحريف، مع ثنائهم على أكثرهم، وفي هذا تقديم لهم إلى الناس.
-ومن ذلك شرح كتبهم وفي هذا أعظم التقديم والتزكية؛ كشرح العلامة ابن القيم لكتاب الإمام أبي عبدالله الهروي، وثناؤه عليه وتسميته له بشيخ الإسلام،
-ومن ذلك تتلمذ علماء السنة على أمثال أولئك العلماء وعدهم في شيوخهم، وقبول طلاب المدارس والاتجاهات الأخرى في حلقهم، وعدهم في تلاميذهم.
-ومن ذلك تداول كتبهم بيعا وشراء وإهداء ونسخا رغم ما فيها من الأخطاء في أبواب كثيرة، ومنها أبواب الأسماء والصفات، وغيرها.
-وقد جاهد العلماء جهاد الطلب مع أئمة البدع المغلظة؛ كالجهمية.
¥