تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مع من حضر، وحينا في عبادة، وحينا في معاملة، ووقتا في ترغيب، ووقتا في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطورا في أمر دنيا، وطورا في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف - فالقرآن النازل فيها هو باعتبار نفسه مختلف، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين النّار والملاح والحادي؟ " وليس ذلك فحسب بل يذهب إلى أن طلب هذا النوع من التناسب يفتح باب الشك لمن كان في قلبه مرض ويوسع عنده دائرة الريب، كما أن القرآن – عنده - قد أنزل بلغة العرب وسلك مسالكهم في الكلام وجرى على مجاريهم في الخطاب، والخطيب عند هؤلاء العرب يأتي في خطبته الواحدة بفنون مختلفة وطرائق متباينة، ومن يناسب بين السورة والسورة كمن يعمد إلى خطب الخطيب المختلفة التي تكون إحداهنّ في موضوع والأخرى في موضوع يختلف عنه كل الاختلاف فيحاول أن يجد المناسبة بينها.

ورغم هذا الهجوم على التناسب بين السور - إلا أن له كثيراً من الأدلة التي يمكن أن تؤيده وتثبته؛ ومن ذلك:

- إن الترتيب الذي على المصحف هو ترتيب إلهي نزل به القرآن إلى بيت العزة كما هو معلوم، وهذا النزول بخلاف النزول التنجيمي الذي به نزل القرآن إلى الأرض؛ يقول الإمام القرطبي: "ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر على ما بيّناه جملة واحدة؛ فوضع في بيت العزة في سماه الدنيا؛ ثم كان جبريل ( r) ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب؛ وذلك في ثلاث وعشرين سنة " ولو لم يكن هذا الترتيب مقصوداً لصحّ نفي التناسب؛ ولهذا يقول الشيخ ولي الدين الملوي (قد وهم من قال لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا؛ فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزل جملة إلى بيت العزة .... وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها)

- إن هذا الترتيب ترتيب توقيفي لا يمكن الاجتهاد في تغييره، والقارئ للقرآن إنما يقرأه بحسب هذا الترتيب لا بغيره، ومعلوم أن العلماء قد أنكروا تقديم السورة المؤخرة وتأخير السورة المقدّمة وسموا ذلك تنكيسا، ولو لم يكن الترتيب مقصودا لما كان لهذا الإنكار من معنى

- كان حمزة القارئ يعدّ القرآن بمنزلة السورة الواحدة، وكان كثير من القراء يرون وصل السور بسكت وبلا سكت ولهم في ذلك مذاهب، ولأجل ذلك فإن هذا الترتيب إنما قصد لأجل التناسب والارتباط.

- يقول الإمام القرطبي: "قال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان توقيفا من النبي ( r) فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف؛ فكله عن محمد خاتم النبيين عن رب العالمين، فمن أخّر سورة مقدّمة أو قدّم أخرى مؤخّرة كمن أفسد الآيات وغيّر الحروف والكلمات"

- ذكر الشوكاني أن القرآن قد نزل على طريقة العرب، وهذا أمر معلوم لا ينكره أحد، ولكن نزوله على لغة العرب لا يلزم عنه أن يكون تناسبه ونظمه ومعانيه كتناسب الأشعار أو الخطب وكنظمها ومعانيها؛ فإذا كانت خطب العرب مع بعضها غير متناسبة - فليس بالضرورة أن يكون القرآن كذلك، ومعلوم يقينا أن القرآن - وإن كان جارياً على طريقة العرب - إلا أنه فائق لكل أشكال الكلام العربي، وإلا لم يكن لادعاء الإعجاز من معنى.

- تحمل أقوال المنكرين لهذا التناسب في داخلها ما يخفف حدة هذا الإنكار أو يمحوه تماما؛ فالعز بن عبد السلام قد ذهب في أول كلامه إلى أن: "المناسبة علم حسن، ولكن إن وقع في أسباب مختلفة لم يشترط ارتباط أحدهما بالآخر".فهو يقبل هذا التناسب بشروط معقولة ومقبولة جداً، أما الشوكاني فإنك تراه في كتابه "البدر الطالع" يمدح البقاعي ويشيد بهذا التناسب رغم إنكاره له هاهنا؛ يقول: "ومن أمعن النظر في كتابه في التفسير الذي جعله في المناسبة بين الآي والسور - علم أنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين علمي المعقول والمنقول "ويقول عن البقاعي أيضا: "إنه من الأئمة المتقنين المتبحرين في جميع المعارف".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير