* و لا مناص لفهم مراده بقوله: " على ما وصفنا " من الرجوع إلى بقية كلامه؛ فبعد أن ذكر عدة أحاديث عقِب قوله: " الختان من ملة إبراهيم، لا يختلفون في ذلك "، قال: «وأجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن، وقال أكثرهم الختان من مؤكدات سنن المرسلين، ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال، وقالت طائفة ذلك فرضٌ واجب لقول الله عز وجل {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} قال قتادة هو الاختتان.
قال أبو عمر:
ذهب إلى هذا بعض أصحابنا المالكيين، إلا أنه عندهم في الرجال، وقد يحتمل أن تكون ملة إبراهيم المأمور باتباعها التوحيد بدليل قوله {لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}.
وقد روى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي (أن سارة لما وهبت هاجر لإبراهيم فأصابها غارت سارة، فحلفت ليغيرن منها ثلاثة أشياء، فخشي إبراهيم أن تقطع أذنيها أو تجدع أنفها، فأمرها أن تخفضها وتثقب أذنيها).
قال: وروي عن أم عطية أنها كانت تخفض نساء الأنصار.
وروى حجاج بن أرطاة عن ابن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ".
قال: واحتج من جعل الختان سنة بحديث أبي المليح هذا، وهو يدور على حجاج بن أرطاة، وليس ممن يحتج بما انفرد به، والذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا». انتهى كلام ابن عبد البر هنا.
و قوله في نهايته: " و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا " يرجع إلى قوله في أوله: " و أجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن "؛ لأنه الإجماع الوحيد الذي ذكره في مسألة الختان.
أما غير ذلك من مسائل الختان فلم يَذكر فيها إجماع، لا هو و لا غيره، بل فيها خلاف، و لا إجماع فيها غير الإجماع على مشروعيته في الرجال و النساء، و قد تقدم بيانه، و هو هادمٌ لدعواهم.
و قد جاء كلامه هذا في سياق بيان قوله " الختان من ملة إبراهيم " و أن العلماء " لا يختلفون في ذلك "، و حكى إجماع المسلمين – متمثلاً بإجماع علمائهم – على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من اختتن من الرجال، و في ختان النساء ذكَر خفاض هاجر عليها السلام بأمر سيدنا إبراهيم، و ذكر ختان أم عطية لنساء الأنصار، و لم ينكره، و ذكر الخلاف في حكم الختان بين الوجوب و السُنية في الرجال و النساء – ثم ختم بذكر أن الإجماع في ختان الرجال هو على ما ذكره - في أوله - أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن؛ فهذا هو الإجماع الوحيد الذي ذكره في كلامه.
و قد يُحتمل أن يكون قوله: «الختان في الرجال على ما وصفنا» راجعاً إلى قوله في أوله: «الختان من مؤكدات سنن المرسلين، ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال، و قالت طائفة: ذلك فرضٌ واجب»، لولا انتفاء الإجماع هنا.
* و كيفما كان الحال فلا يحتمل قوله: «و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما وصفنا» أيّ إنكار لمشروعية ختان الإناث، كما يزعمون، و دليل ذلك:
1 – ذكره خفاض السيدة هاجر عليها السلام، و كذا خفاض نساء الأنصار، من غير إنكار.
2 – أن الإمام مالك صاحب " الموطأ " – الذي كتب ابن عبد البر كتابه هذا " التمهيد " لذكر ما فيه " من المعاني و الأسانيد " – أخرج الحديث: "خمس من الفطرة: تقليم الأظفار، وقص الشارب، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاختتان ". و قال فيه: «من الفطرة ختان الرجال و النساء»؛ ذكره ابن عبد البر نفسه في كتابه هذا نفسه،و كذا في كتابه " الاستذكار ".
3 – قول ابن عبد البر نفسه: «و من فطرة الإسلام عشر خصال: الختان، و هو سُنة للرجال، و مكرمة للنساء، و قد رُوي عن مالك أنه سُنة للرجال و النساء»؛ قاله في كتابه " الكافي في فقه أهل المدينة ".
و مع كل هذا يدّعي مُدّعٍ أن الإمام ابن عبد البرّ أنكر صحة ختان الإناث!
¥