تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيَّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم الا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: كنت أعمى فردّ الله بصري، وفقيرا فأغناني، فخذ ما شئت. فوالله لا أجهدك اليوم بشئ أخذته لله. فقال: أَمْسِكْ مالك، فإنما ابتليتهم. فقد رضى الله عنك، وسخط على صاحبيك. قلت: هذا الحديث من منسوجات أبي هريرة. وقد رقَّشه ووشّاه فكان كأحدث رواية خيالية يمثلها المزخرفون على مسارحهم في عصرنا الحاضر يرمي بها إلى عاقبتي شكر النعمة والكفر بها" (ص164 - 166). وواضح أن ما جاء فى الحديث هو مما لا يمكن أن تنتطح فيه عنزتان لأنه هو الحق فى سطوعه وبهائه، وإلا فما الذى ينكره الموسوى من هذا الحديث العظيم الذى يحذرنا من بطر النعمة والتكبر على التعساء والمعوزين وغمطهم ما لهم من حقوق فى أموالنا، ناسين معاناتنا الماضية التى كان ينبغى أن تعطفنا عليهم لا أن تتحول إلى حاجز يقوم بيننا وبين الإحساس بآلامهم والمسارعة إلى تخفيفها بما نستطيع؟

ومثله إنكاره الحديثين العظيمين التاليين المفعم أولهما بالدعوة إلى الرحمة بالحيوان الأعجم المسكين الذى لا يملك من أمر نفسه شيئا، وثانيهما بالعطف الإلهى على الضعف البشرى ومد حبال الرجاء فى عفو الله وغفرانه وبره ولطفه: "أخرج البخاري عن أبي هريرة يرفعه، قال: بينما رجل يمشي في طريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش! قال: فنزل الرجل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له وغفر له بذلك ... الحديث". وقد تعلم أن هذا الحديث والذي قبله إنما هما من مخيلة أبي هريرة يمثل بهما حسن عواقب العطف والحنان ويحض بهما على البر والاحسان. أخرج مسلم عن معمر، قال: قال لي الزهري: ألا أحدثك بحديثين عجيبين؟ أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي قال: أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر، فو الله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذابا ما عذب به أحدا. ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أَدِّي ما أخذتِ. فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: مخافتك يا رب. فغفر له بذلك. قال الزهري: وحدثني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: دخلت امرأة النار في هرةٍ ربطتها: فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض ... الحديث. قلت: أما المرأة ذات الهرة فإن كانت مؤمنة كانت، كما قالت عائشة، أكرم على الله من أن يعذبها في النار بهرة، وإن كانت كافرة فانما تعذَّب بكفرها. وأما ذلك المسرف فإنه، على ما يقتضيه الحديث، لم يكن أهلا للمغفرة، إذ لم يكتف بتمرده على الله تعالى طيلة حياته وتجاوزه الحد في موبقاته حتى مات مصرا على تمرده يائسا من رَوْح الله فارًّا من سلطانه إلى حيث لا تناله، على زعمه، قدرة الله عز سلطانه التي أحاطت بكل شىء، ولذلك أوصى تلك الوصية البربرية، فهو كافر بيأسه من رحمة الله وإنكاره لقدرة الله عز وجل. والكافر لا يستحق المغفرة، ولا هو لها بأهل إجماعا وقولا واحدا. على أن أسلوب هذا الحديث إنما هو أسلوب حكاية خيالية ترمى إلى عدم اليأس من رحمة الله ولو مع الإسراف، وإلى عدم الأمن من عذاب الله ولو مع الإيمان. وهاتان الحقيقتان في غِنًى عن روايات أبي هريرة وخيالاته لثبوتهما بنص الذكر الحكيم والفرقان العظيم: "ولا تيأسوا من رَوْح الله. إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون"، "أفَأَمِنوا مكر الله؟ فلا يأمن مَكْرَ الله إلا القومُ الخاسرون"، فالسنن المقدسة تبرأ أساليبها من هذا الحديث وأسلوبه كما لا يخفى. وأيضا لو فُرِض وقوع تلك الوصية من ذلك المسرف وفُرِض أنها بمجردها كانت سببا لمغفرة ذنوبه فرسول الله صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يحدّث بها حتى يعلق عليها بكملة تحصرها، إذ لو حدَّث بها من غير تعليق كما نقله أبو هريرة لأغرى بها المسرفين من أمته، وهذا محال كما لا يخفى".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير