تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهذه هي التقوى التي يتربَّى عليها الحاجّ ويسير عليها في حياتِه حتى يلقَى اللهَ متعامِلاً بمقتَضاها مع أوامِرِ الله ونواهيه. وكما أنّ الحجَّ لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدال، فإنّه تربِيَة وتهذيبٌ للسّلوك ليصبِحَ ذلك خلُقَه دائمًا، وليكونَ كما وصَفَ النبيّ: ((ليس المسلِم باللّعان ولا الطّعان ولا الفاحش البذيء)). هذه بعض معالمِ التقوى في الحجّ، فليستَحضِرها المسلمُ مع قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، وليضَع نفسَه في الميزان.

أيّها المسلمون، حجاجَّ بيت الله العتيق، أما وقد وفَّقكم الله تعالى لمرضاته، ويسَّر لكم التعرّضَ لنفحاته، فاستقيموا على أمره، وليحذَرِ المسلم أن يلوِّثَ صحيفتَه البيضاء، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]. وإنّ مِن أولى ما يوصَى به المسلم بعد التّقوى ما أوصَى به النبيّ سفيانَ رضي الله حينما قال: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقم)) رواه مسلم.

ومَع استقامةِ العبدِ فإنّه معرَّض للخَطَأ والتّقصير؛ لِذا قال الله عزّ وجلّ: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6]، وإلى ذلك أشار الحديثُ الصحيح الذي رواه أحمد وابن ماجَه عن ثوبان رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((استقِيموا ولن تحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يحافِظ على الوضوءِ إلا مؤمِن) وفي رواية لأحمد: ((سدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظ على الوضوءِ إلا مؤمِن) وفي الصحيحَين أنّ النبيّ قال: ((سدِّدوا وقارِبوا)). فالمطلوبُ مِنَ العبد الاستقامة وهي السّدادُ، فإن لم يحصُل سدادٌ ولا مقارَبَة، فهو مفرِّط مضيِّع.

أيّها الحاجّ الكرِيم، ما أجملَ أن تعودَ لأهلك ووطنِك بعدَ الحجّ بالخلُق الأكمَل والشِّيَم المرضيّة والسجايا الكريمة، حسَنَ التعامُل مع زوجِك وأولادك وأهلِ بيتك، طاهرَ الفؤاد، ناهِجًا الحقِّ والعدل والسّداد. إنَّ الحجَّ بكلِّ مناسكه قد زادَك معرفةً بالله، وذكَّرك بحقوقِه وخصائِصِ أُلوهيّتِه جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةّ سواه، فهو الواحد الأحَد الذي تسلِم النّفسُ إليه ويوجِّه المؤمِن إليه، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79]، فكيف يهون أن تصرِفَ حقًّا من حقوقِ الله إلى غيره كالدعاءِ والاستعانةِ والقَصد والنّذرِ؟! أين أثرُ الحجّ فيمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة مانعًا للزّكاة آكلاً للرِّبا والرّشا لا يبالي بأمرٍ أو نهي؟!

أيّها الحاجّ، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلستَ بدارِ إقامة، واحذَرِ الرياءَ، فرُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، وربَّ عملٍ صغير تكبِّره النية. ليَكُن حجُّك أوّلَ فتوحِك وتباشيرَ فجرِك وإشراقَ صُبحك وبدايةَ مولدك، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].

تقبَّلَ الله حجَّك وسعيك، وأعاد عليك وعلينا هذه الأيامَ المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة والأمّةُ المسلمة في عزّةٍ وكرامة وصلاحٍ واستقامة.

بارَك الله لي ولكُم في القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والهدى، وجنبنا مواطن الردى، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائرِ المسلمين والمسلِماتِ من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحدَه، نَصَر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزَم الأحزابَ وحدَه، فلا شيءَ بعدَه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، جلّ عن النِّدّ وعن النظيرِ، وتنزَّه عن الصاحبةِ والولد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابتِه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيّها المسلمون، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضَلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، أعاذَنا الله وإيّاكم منها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير