الجيل الذي يلهثُ ويسفُّ ترابَ الأرضِ ليعيشَ منكوباً .. مسحوقاً .. محروقاً .. مطحوناً .. مخذولاً .. لا يهم .. المهم أن يعيشَ .. ليجدَ قبولاً في كليّةٍ .. أو ركناً في سوق خضار .. أو موطئَ قدمٍ في منشأةٍ يغدو فيها حارس أمن .. أو مضطَجعاً في مستشفى .. أو قبراً في الصحراء .. أو كفناً في دربِ عراء.
في بلد الدولارِ والنفطِ والأنهار .. والحفاةِ العراةِ الذين يسكنونَ الناطحاتِ .. ويعاقرونَ الساقياتِ! ويستكنّونَ في كنيفِ المنطقةِ الخضراءِ! .. والعراقُ تموتُ كل يومٍ ألف مرّةٍ .. وبغدادُ الرشيد ما عادت رشيدة.
لن ينسي الناسَ الجرحَ الغائرَ .. وساطور الجزّار .. والتنكيل .. والأصفاد والأغلال .. وضوء الزنزانة الصفراء .. ودموع صابرين الجنابي وهتك سترها .. وبُقع الدماء الطاهرة .. وأكوام السجناء العراة في دهاليز "أبو غريب" .. لكل أجلٍ كتابٌ.
هاهم سجّانوك .. وساحقو إخوانكَ من قبلُ .. دولارٌ يرفعهم .. وآخرُ يخفضهم .. هم ذاتهم سجّانو "الكرنك"، و "التحويلة" و"إحنا بتوع الأتوبيس" و"البريء"، هم جلادو "ليمان" و"طره" و "الباستيل" و "الكاتراز" و "جانغي" و "غوانتنامو" و "شاوشنك".
أذْكُرُك أيّها العزيز مشتاقاً إلى سطر صغيرٍ في حانة "شحاذّون ونبلاء" .. تحب البسطاء .. تأنس بهم .. في العامرية .. والدورة .. والعطيفية .. والأعظمية .. والزعفرانيّة .. في أزقة بغداد .. في ملاهي أطفالها .. ومقاهي كهولها .. في ذات المكان الذي سطّر فيه الدكاترة زكي مبارك خالدتهُ "ليلى المريضة في العراق".
ماتت ليلى والعراقُ يحتضرُ يا زكي .. تحترقُ بغدادُ .. والبصرةُ أشتاتٌ.
حيث كان المازني .. والزيّات .. وحيث مرَّ الطنطاوي .. تشعرُ أنك قطعةٌ منهم .. تتلاشى روحك العذبة معهم.
مع ألبير قصيري .. العجوز البوهيمي .. المتسكّع في أزقة باريس الفوّاحةِ برائحةِ الموكا ذات الرغوة الكثيفةِ ونكهة البندقِ الغنيّة الممتزجة بروائح قيرلان ولانكوم وكارتييه .. الذي رحل فجأة وترك فراغاً كبيراً .. كالفراغ الذي تركتهُ حين أخذوكَ حافيَ القدمينَ .. وحذاؤكَ يخطُّ طريق العلياءَ، ليسجّل اسمك في صحائف الخلدِ وتاريخٍ لا يبلى.
هل سحرتك المدنيّة والأضواء يا ابن الأزقةِ والدهاليز .. فتركت درب الصعلكة .. ودخلت التاريخ من أقذر أبوابه: بوش اللعينِ!.
هل صحيحٌ ما يُقالُ: اتق شر الحليم إذا غضبَ! .. هل فعلاً كنتَ غاضباً .. أجبني: لماذا لم تغضب بقية الشرذمة وهم يرون الجزّارَ يرقصُ فوق الجثث المكدّسة .. جثث الآباء والأمهاتِ .. وروائح الموت تملأ المكان .. هل جعلوكَ الطعمَ لاصطياد السنّور .. لكن ما للسنّور ولّى هارباً .. والطعم في شباك الصيدِ .. لقد كنتَ صيداً ثميناً بحق .. فلم يجد أولئك العتاة بداً من التساقط فوقكَ .. والتشبّثِ بمعطفكَ.
أيّها الرفيق .. إنّي أقرؤك بسكينةٍ ووقارٍ .. مترنّماً بتمتماتٍ متأوهةٍ في "رأس المال" للصعلوك الثائرِ المكدود كارل ماركس .. أجدُك في سطور "البيان الشيوعي" لفريدريك إنجلز .. في أعمدة البرافدا .. أراك في صفوف لينين .. ثورة ستالين .. في أحلام تشي غيفارا .. في صمود فيدل كاسترو .. على حائط برلين .. بلوروتاريّاً .. في صفحاتِ البيريسترويكا لجورباتشوف .. في جدارية محمود درويش .. فوق جبال الأورال .. في الساحة الحمراء .. في شوارع براغ .. وعلى تخوم وارسو.
ألست رفيقاً! .. ألم يقلِ الرفيق الأعظم عبدالرحمن المنيف: أنا لن أخون الرفاق! .. ألهذا بقيتَ وفيّاً لحذائكَ! .. فآليت أن لا يخرجَ من رجلكَ إكراماً له ووفاءً إلا على رأس مستحقّهِ .. فما بال كثيرٍ من الرفاق لم يُحسنِ العهدَ فصار دمية القصر! يعتصرُ الخمرةَ من كرمة أبيهِ .. ليسقيها بيدين مرتعشتينِ الجلادَ الذي يشربها في أواني الجماجم العراقية الأصيلةِ .. لماذا أسلمك الرفاق إلى حتفك وخانوك بزوجٍ من حذاءٍ ظللتَ لهما وفيّاً حتى يوم وداعهما فسقتهما إلى حتفٍ خالدٍ ومجدٍ تليدٍ .. أيهابونَ الموتَ شرفاً! .. ألم تمتْ أخواتهم وأمهاتهم أعزّةً وهنَّ يدافعن عن شرفهنَّ .. عن شرفكَ .. عن شرفي .. وشرف العربِ والمسلمينَ! .. وتفرغوا هم للعقِ أحذية المحتلّين!
¥