تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

رغم كل ما يشعر به من ألم أولئك الذين يُفتشون بدقةٍ في المطارات إلا أنني في كل مرةٍ كنتُ أشعر بسعادة مدفونة عندما يتقدم فريق من رجال الأمن حول حذائي وحقيبتي ويحملونها إلى مكانٍ بعيدٍ وأنا أسير (كالملك بغير سلطان) يُحمل حذاؤه وحقيبته، ويقومون بالتفتيش الدقيق وتمرير الحذاء ثانيةً على أجهزةٍ عديدةٍ ثم يتقدَّم أحدهم في أدب جم ليضع الحذاء بين قدمي شاكرًا إياي أن سمحت له أن يتشرف بحمل حذائي بعض الوقت.

حكايات من التاريخ والواقع

1 - الحذاء في عهد المغول: أورد المؤرخ العظيم (الجبرتي) مندهشًا ونحن معه أن حاكمًا عربيًّا لما رأى انتصارات "هولاكو" في أرض العراق والشام خشي على عرشه المحدود وكرسيه المترنح، فطلب أن يصنع صندوق من أغلى أنواع الخشب ونادى أفضل الحذَّائين ليصنع له حذاءً فخمًا يليق بمقام "هولاكو"، ونادى رسَّامًا محترفًا ليرسم وجه هذا الحاكم العربي على أسفل النعلين، ووضع الحذاء في هذا الصندوق الفخم، وأحاطه بكل ما عنده من الدرر والذهب والألماس، وأرسل ولده إلى "هولاكو" راجيًا أن يشرفه بأن يطأ بقدمه وجهه، وأن يُكرِّمه بلبس هذا الحذاء، لكن "هولاكو" المتغطرس المنتفش غضب؛ لأن الحاكم لم يأتِ بنفسه، وهمَّ بقتل ولده لولا شفاعة زوجه، فأخذ الهدية الثمينة، ولم يشرفه بأن يدوس على وجهه وأكمل طريقه في غزو بلده وقتل هذا الزعيم الذليل، لكن هذه الغطرسة التي كانت مع أول الغزو سنة 656هجرية لم تدم طويلاً حتى قيَّد الله للأمة سلطان العلماء العز بن عبد السلام والتحم مع خيرِ الزعماء سيف الدين قطز، وأعدَّت الأمة للقوة والجهاد في سبيل الله فانتصروا على "هولاكو" وجنده وقتلوه شر قتلة، ودخل كثير من المغول في الإسلام وتحولوا إلى مدافعين عنه بعد أن كانوا حربًا عليه بعد عامين فقط من هذه الوقعة (658هجرية).

2 - أشهر قتل في عالم السياسة ما قامت به شجرة الدر من قتل زوجها ضربًا "بالقبقاب" (حذاء خشبي يعوَّر)، حيث قام الخدم بواجب الضرب بمجموعةٍ كبيرةٍ من "القباقيب"، حتى مات غير آسفة عليه!.

3 - كان الإمام الخصاف الحنفي من خيرة العلماء الذين اشتهروا بالفقه السديد، فقد كان خصافًا يصنع ويخصف النعال، ومن روائعه النادرة في تراثنا الفقهي كتاب "النفقات"، وقد تقلَّد ريادة الفُتيا والتدريس للمذهب الحنفي في زمانه، وفي القصة التالية امتداد لهؤلاء الخصافين الحذائين صانعي الرجال والعقول.

4 - أفضل حذاء ركبته وصحبته ما ذهبت لتفصيله (وليس شراؤه جاهزًا) سنة 1977م، عند الحاج "محمد حنوت"- رحمه الله- صاحب أشهر محل لتفصيل الأحذية (في شبين الكوم، المنوفية)، ودخلتُ دكانه وشدني صوت الشيخ كشك كالسيف البتار في نقد الظلم والطغيان في ديار الإسلام واستبعاد القرآن والسنة أن تحكم الأمة، ووجد الشيخ الجليل شدة انتباهي فقال لي بعد أن أخذ المقاسات: "ما هي اهتماماتك؟ " قلت: "القراءة"، قال: "ماذا تقرأ؟ "، قلت: "اقرأ الكتاب كله"، فكرر سؤاله وكررت جوابي، فقال في حكمةٍ نادرة: "يا بني نحن نقرأ لنفهم أولاً، ونعمل ثانيًا، وندعو ثالثًا، والقراءة العامة لا تُساعد على شيء من ذلك، فأقترح أن تقرأ أي كتابٍ مع ضرورةِ تلخيص الأفكار الأساسية والمعاني الجديدة البديعة"!!.

فشكرته على نصيحته لكنه أبى إلا أن ينتقل من مقام الداعية إلى المربي فقال: "سنقوم بتجربة عملية"، فدخل إلى عمق دكانه ليأتي لي بكتاب "منهج التربية الإسلامية" للشيخ محمد قطب، فقال لي: "اقرأ هذا الكتاب ولخصه، ثم تعال واعرضه لي، فإذا أجدت فلك تخفيض جيد في ثمن الحذاء"، وقد فعلتُ فكان أول كتابٍ اقرأه بوعي ثلاث مرات، واحدة لأخذ الفكرة العامة، والثانية لفهمه الدقيق، والثالية لتلخيصه في نقاط، فكانت هذه محطة كبرى في حياتي حيث ساهم الشيخ في صناعة عقلي حتى اليوم قبل أن يُقدِّم لي حذاءً مريحًا قويًّا صحبني وحده طوال فترة الدراسة في البكالوريوس والماجستير ثم سُرق في أحد المساجد، ولو كان هذا الحذاء حيًّا لشرفني أن أُهديه لهذا الصحفي "منتظر الزيدي" الذي صار حذاؤه شاهدًا عليه في الدنيا، وأرجو أن يكون شاهدًا له يوم القيامة، هذا إن استطاع أن يقف على قدميه قبل أن يُحمَل على الأعناق.

5 - من أوائل العمداء لكلية إسلامية تمَّ تعيينه من السلطة في بلادنا المحروسة، بعد الإجهاز على هامش الحريات في الجامعات، ومُنع الأساتذة من اختيار وانتخاب العمداء، كان أستاذًا في الكلية من غير الكرماء؛ حيث ضرب والده بالحذاء على رأسه، فنُحِّيَ الكرماء، وعُيِّن هذا الذي ألحف في عقوقِ الآباء، وعاش فترة عمادته بين تخبطٍ واهتراءٍ حتى حكم القضاء بتجبره- ليس فقط على الطلاب النجباء- بل على الأساتذة الكرماء، وخرج ذليلا مشيَّعًا بدعوات عليه تصاحبه إلى اليوم اللقاء.

وسنرى الفرق بين حضارة الإسلام في التعامل مع قتلةِ الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في محاكمةٍ عادلة، وبين حضارةِ الأمريكان وما سيتعرَّض له هذا الصحفي (وأهله وعشيرته) لمجرد أن قام برجم حذاءيه في وجه زعيم المحتلين الغاصبين "مستر بوش الصغير" وإن لم يصبه.

أخيرًا اقترح أن يكون يوم 14 ديسمبر يوم الحذاء العالمي، وأن يُباع هذا الحذاء الذي رُجِمَ به الرئيس بوش في مزادٍ علني، وسترون كيف سيصوت العالم لهذا الحذاء في مواجهةِ ظلم الرؤساء!.


* أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير