ـ[قطرة مسك]ــــــــ[10 Jan 2009, 07:31 م]ـ
بيني و بين الدكتور نزار الريان
عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق
الدكتور الراحل العلامة نزار الريان، شخصٌ نال عندي منزلةً رفيعة، و آثرْتُه بحبٍّ كبيرٍ، لا لشيءٍ سِوى أنني رأيتُ رجلاً جمع الله فيه من خصال الكمال ما تفرَّقَ في الكثيرين، لم أعرفه عن قربٍ، و لكن أحاديثه تنبيءُ عنه و تُخبرُ عن كُنه حقائقه، رجلاً عالماً، أضاف إلى علمه حِلماً و عقلاً، و قليلٌ من العلماءِ من هو كذلك.
كانت البداية أن أضافني عنده في برنامج المحادثة " الماسنجر "، إضافةٌ من رجلٍ لا يعرف عني شيئاً، سوى ذكر بلغه، و لا أعرف عنه شيئاً سوى ذكر بلغني، و لكن ما إن كان التواصلُ حتى بدا بيننا حديث الودِّ و الإلْفِ، و لا زلتُ أعجبُ من ذاك التواضع الكبير الذي جعله يُضيف شخصاً ليس شيئاً، حتى الساعةَ أتعجبُ منه كلما مرَّ شريط ذكريات الحديثِ معه.
متمتعٌ بهمةٍ عاليةٍ، رأيتها في حديثي معه في برنامج المحادثة فقد كان يذكرُ لكلامه ما يُوثقه من نقلٍ عن سابقٍ، و لا يطمئن حتى يُتبعَ ذلك بالعزوِ للمصدرِ الذي نقلَ منه، و مجالس المذاكرات يُتساهَلُ فيها، و لكنه جادٌّ و الجادُّ لا يرنو نحْوَ التساهُلِ في حالٍ.
استفدتُ في السجنِ الفِقْهَيْن؛ فقه اللغةِ، و فقهِ الأحناف، فقد أفاداني كثيراً في العلم "
نزار الريان
كنتُ معه في كلام عن اللغةِ، و مدى أهمية توظيفها و استعمالها في أحاديثنا، لم نكن جميعاً نقصد الإعرابَ للكلامِ و لا صرفَه، بل كنا نقصدُ استعمال ألفاظ العربيةِ و التعمُّقِ في أسرارها، ليعرف الناسُ، و طلاب العلوم آكد، مدى استيعاب اللغةِ كثيراً مما يريدون، حكى لي قصته في السجنِ و أنه استفاد منها أن قرأ في كتب فقه اللغة كثيراً مما أطلعته قراءته على كنزٍ كان عنه غافلاً، و أنها عرَّفته كثيراً من أسرارها و التي تعينه على فهم الشريعة، قال: قد استفدتُ ذلك جليَّا في شرحي لـ " مسلم "، ثم سردَ لي ما كتبَه عن كلمة " السنة " و تطورها الدلالي و الاصطلاحي، ثم قال: أين سأحكي ذلك لولا تلك القراءة.
من فقه اللغةِ اللساني إلى الفقه الشرعي المتمكن في إعمالِ الرأي و توظيفِ العقلِ في فهم النصوص كان انتقاله في القراءة في كتب الأحناف، فأكسبته تلك القراءة فهماً للنصوص أبعدَ مما كان يعتقد، و أن الأحناف لهم فضل كبيرٌ على فقهاء الشريعة، فقد نظروا إلى أبعادٍ كثيرة، و إن كان لا يوافقهم.
هذا الحالُ من رجلٍ يقبَع في السجن محصوراً مأسوراً، مُثاباً مأجوراً، يغتنم تلك الحالة بهذه التعمقات الفقهية، لهي حالة ليست إلا صورة نادرة، كان بإمكانه أن يُريح عقلَه قليلاً بقراءة مُلَح العلم و يستغنيَ عن عُقَدِه، و لكن الهمة معقودة في قائمة عرْش الكمالِ فأنَّى أن تُفَكَّ.
" و أظلمت المدينة " ..
في محادثةٍ من تلك المحادثات الطاهرة معه، قبِلَه الله، تطرقنا لشيءٍ من الحديثِ عن السيرة النبوية، و أن السيرة لم تُصَغْ اليومَ كما هي متناسبة مع الزمان، و الذي ينبغي لمن ملك قلماً أن يُسيلَ حبرَه لكشف أسرار السيرة النبوية البانيةِ لحضارة الإنسانِ اليوم، فإنَّ السيرة معطاءة ولودٌ، و تتجددُ و لا تَخلق، ثم جاءَ ذكرُ كتابه " و أظلمت المدينة "، فأرسلَه إليَّ قبل أن يُطبَع طبعته الأخيرة في " دار المنهاج "، و قال: هي لك خاصةٌ من بين الناس، فلا تُخرجه لأحد حتى يُطبَع، و بعد زمنٍ أرسلَ غلافَ الكتابِ. أخبرتُه بأنَّ الكتابَ موطنُ دمعِ مُحبٍّ ليس إلا، و إنك لممنوحٌ مقاماً به.
قال: كتبته معتمداً على ما صحَّ من خبرٍ، جامعاً وعظاً و علماً، سارداً قصةً عظيمة، أتمنى أن أكون مجوِّداً عملي.
طريقته في الجمع هذي مفيدة في التنويع الطرْحي للعلومِ، و لعله أدرك ذلك ففعل، فالكتاب سيُقرأ من عدة أطيافٍ و عدةِ أصنافٍ، فبالتنويعِ توفيرٌ لكلٍّ ما يريدُ، و إيجادٌ للبُغية، و هذه من فطائن اللبيب.
ذكرتُ له قِصةَ ما كتبت من مقامةٍ في السيرة، و لا أدري أأرسلتها له أم لا، فكلانا كان ذاهباً على أن للسيرة حضورٌ مهمٌّ اليومَ في صورٍ لا تحصيها الأعداد، و لكن لا يعرفُ صورها إلا من عرفَ أبعادها.
" رضي الله عنكم "
هذه الكلمة قد تكون شعاراً له في حديثه، فما بين الكلماتِ يسوقها، و شبيهاتٌ لها، تنبئك عن رأفته و رقته، لم أكد أسمعها من أحد، لذلك كان متميزاً، و لعلَّها طبعه العام مع الناس كلهم، فكمال أدبه لا يرضى بالتخصيص إلا بموجبٍ.
كتب إليَّ بقصةٍ ظريفة جميلة بينه و بين الشهيد عبد الله عزام، قبلهما الله، قال:
في ساقي جرح قديم جدا، كنت جالسا مع أستاذي عبد الله عزام رحمه الله، فرأيت في نفس الساق منه جرحا كأنه هو، قلت له: ما هذا؟
ونظر إلى جرحي، فقال: الأرواح جنود مجنده.
...
" كتبت في الأيام الماضية مقدمة كتاب الأنساب ضمنتها " الأنساب أصولها وقواعدها وفوائدها " نزار الريان
كتب ذلك لي في 10/ 11/1429
ولا أعلم شيئاً، رجلٌ معطاءٌ، لا ينتهي عطاؤه، و عطاؤه شهيدُ مقاصدِ و غاياتٍ نبيلة، و الشهيد حيٌّ.
في ذاك التاريخ ذكر أمنية الحجِّ، و أخبرَ بشوقِ اللقاءِ، و لعلَّه قيَّدَه، بعد قيدِ التيسير، كما قال، نصاً: هذا إن خرجت غزة.
...
"نويت في رباطي القادم بعد ليال، أن يكون أجره لك إن شاء الله تعالى، فتكون نيتي من أول تلك الليلة: رباط هذه الليلة هبة لأخي في الله ثم أذكرك إن شاء الله تعالى "
نزار الريان
الاثنين، 12/ 11/1429
هذا تاريخ آخرِ محادثةٍ كانت بيننا، كانت محادثة ممتعة ملأها بتميُّزٍ في الفوائد العلمية، كعادتها و أمْيَز، افتتحها بكل أدبٍ وخُلُقٍ فذٍّ بتلك النية أعلاه.
هذا شيءٌ مما كان بيني و بين هذا الراحل الكبير، و أعرف تقصيري، و لكن الذاكرة لم تُسْعف تعبيراً أكثر من ذا، و إنه لفي الذكر باقٍ، و إنَّ ما أذكره مما جرى معه من حديثٍ ممتعٍ، و رؤية لوجهه المنير، ليجعلني في شكٍّ من كونه رحلَ، و إنني لأحتسب بقاءَه، و أرجو في الآخرة لقاءَه.
http://www.saaid.net/Doat/thomaaly/113.htm