تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكأن الفراء رضي هذه الصنعة فذهب يتحراها في أبيات من الشعر فوجدها في بيت لم ينسب إلى قائل وهو:

كأنما ضربتْ قدّامَ أعينِها ***** قُطناً بمستحصدِ الأوتارِ محلوج ِ

فقال في هذا البيت ما قاله في الآية أي ما ذهب فيه النحاة من الجر بالجوار، ثم أتى ببيت ذي الرمة:

تريكَ سنة َ وجهٍ غيرِ مقرفةٍ ***** ملساءَ ليس بها خالٌ ولا ندب

أقول: وكيف ذهب الفراء وغيره من النحويين إلى مسألة الجوار في خفض (غير) وهلا كان لهم أن يجعلوا (غير) هذه منصوبة وهي الصواب في الأصل، وناشر ديوان ذي الرمة وهو المستشرق (مكارتني) أثبت الصواب!

ثم وقف على بيت الحطيئة:

وإياكم وحية َ بطنِ وادٍ ***** هموزِ النابِ ليس لكم بسِيِّ

أقول: وليس للفراء ولا لسائر النحويين أن يفيدوا كثيراً من الشواهد الشعرية ذلك أن الشاعر منذ عصر الجاهلية القديمة وفي سائر العصور ممتحن بقيد الوزن وقيد القافية وهو في محنته مضطرّ إلى أن يكون منه ما يكون مما يختلف عن طريقة ما هو فيه من النظم و ما درج عليه من اتباع ما ألفه مما سمي ضوابط نحوية وصرفية وغيرها، ألا ترى أن الشاعر القديم الأسود بن يعفر قد فرضت عليه القافية أن يقول:

ودعا بمحكمة أمين سكها ***** من نسج داود ابن سلّام

وقد أراد بـ (سلام) النبي سليمان فتصرف على هذا النحو وحوّل العلَم إلى غيره، ومثل هذا جرى للحطيئة في قوله:

فيه الرماحُ وفيه كلُّ سابغةٍ ***** جدلاء مبهمة من نسج سلّام

ومثل هذا قول النابغة في داليته:

زعم العواذلُ أنّ رحلتنا غداً ***** وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودِ

وقد أذعن لقافيته على الدال المخفوضة فأثبت (الأسودِ) بخفض الدال وحقها الضمّ.

وأعود إلى الفراء الذي أراد قاصداً الابتعاد عن كلام النحويين في الجر بالجوار فذهب إلى أن هذا من باب (إتباع الخفض بالخفض) وكأن توجيه الفراء أرضى غيره فكان منه قول النحاس في الآية التي تقدم ذكرها.

وأضيف هنا أن الشعراء ممتحنون في كل عصر ومن هذا ما كان للفرزدق، مع عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي في قوله من قصيدة معروفة:

وعض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتاً أو مجلفُ

فقال له ابن أبي إسحاق: على أي شيء ترفع (أو مجلفُ)؟ فقال: على ما يسوءك وينوءك.

......................

وكنتُ أردتُ أن أبسط شيئاً هرع إليه النحويون وتمسكوا بشيء أنكره الكثير وهو مسألة الجر بالجوار في قول القائل القديم: (هذا جحر ضبٍّ خربٍ)، وكأنهم بعد ما بدا لهم القول الصحيح أرادوا أن يشاركوا النفر الآخر الذي سعى إلى ما هو معدول عن جهته فراحوا يتشبثون في السعي إلى ما يكون من هذا في لغة التنزيل وفي الشعر القديم، وليس من ضير أن أجيء من هذا بقدر فأقول: كأن النحاة قد أدركوا أنهم وجدوا بضاعتهم يسيرة -ولا أقول مزجاة- فسعوا إلى الإكثار والتزيّد فكان لهم أقوال بل أقاويل باطلة.

وأعود إلى الآية السابقة فأجد النحويين والمعنيين بتفسير لغة الذكر الحكيم قد بسطوا فيها علمهم فقالوا إن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم يوصف به لأن الريح فيه تكون فجاز أن تقول: يوم عاصف، كما تقول: يوم بارد ويوم حارّ، قال الفراء: ((وقد أنشدني بعضهم:

يومين غيمين ويوماً شمسا

فوصف اليومين بالغيمين وإنما يكون الغيم فيهما)).

وهذا مما ورد لدى الزمخشري وأبي حيان.

وقالوا أيضاً في هذه الآية: إنه على معنى (يوم عاصف الريح) فحذفت الريح لأنها قد ذكرت، واستشهدوا بقول القائل:

فيضحكُ عرفانَ الدروع جلودُنا ***** إذا جاء يومٌ مظلمٌ الشمس ِ كاسفُ

وقالوا إنه من باب النعت السببي على تقدير (في يوم عاصف ريحُه) كما يقال: (مررت برجل ٍ قائم ٍ أبوه) ثم حذف (ريحه) لوضوح المعنى، وقد جاء هذا في قول مكيّ بن أبي طالب.

وقالوا أيضاً: على تقدير (في يوم ذي عصوف) كقولهم: رجل نابل ورامح، أي ذي نبل ورمح، كما ورد لدى النحاس ومكي وأبي البركات الأنباري.

وقرأ ابن أبي إسحاق وغيره على الشذوذ: ((في يوم ِ عاصف ٍ))، على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، أي في يوم ِ ريح ٍ عاصفٍ.

.....

أقول بعد إيراد هذه الشواهد:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير