تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن الدلالات المستوحاة من هذه الآيات الكريمة أن الله (تعالي) قد خلق الإنسان في أحسن هيئة , وأنسب قامة , وأعدل صورة , وزوده بالعقل والجوارح , والأحاسيس , والمشاعر , وبالقدرة علي اكتساب المعارف والمهارات , كما زوده بالإرادة الحرة , وبغير ذلك من الصفات والمواهب والقدرات التي تعينه علي القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض , وتنمو معه حتي تصل إلي أوجها في مرحلة الشباب , ثم تبدأ في التناقص التدريجي والذبول مع الكبر في السن حتي إذا وصل الإنسان إلي أرذل العمر أدركه الضعف بعد القوة , والعجز بعد القدرة , فإذا كان من الكفار أو المشركين أو العصاة الضالين أوكله الله (تعالي) إلي ضعفه وعجزه البشريين , وإذا كان من المؤمنين الصالحين فإن الله (سبحانه وتعالي) يكرم شيبته , ويجبر تقصيره , ويوفيه حقه كاملا غير منقوص حتي لو لم تمكنه قدراته من أداء عباداته علي الوجه الأمثل , وفي ذلك يروي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قوله أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجزه عن العمل كتب له ما كان يعمل. كذلك روي البخاري عن أبي موسي الأشعري (رضي الله تعالي عنه) قوله: أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما.

فسواء كان المقصود بالارتداد إلي أسفل السافلين في الآية الكريمة هو الارتداد في الدنيا إلي أرذل العمر وما فيه من ضعف وعجز بعد قوة وقدرة , يتدارك فيه الله (تعالي) برحمته كل مؤمن صالح ويدع كل كافر ومشرك لقدره , أو كان المقصود الارتداد إلي الآخرة وأهوالها وعذابها حيث ينجي الله برحمته المؤمنين الصالحين ويوفيهم أجورهم بغير نقص ولا منة , ويلقي بالكافرين والمشركين والمنافقين الضالين وعتاة المجرمين إلي أسفل دركات النار , فالآيات الكريمة تتسع للمعنيين معا ولما هو فوقهما من معان في نفس السياق , والله (تعالي) أعلي وأعلم.

والقضية الثانية التي يدور حولها محور سورة التين هي قضية الدين الذي أنزله ربنا (تبارك وتعالي) علي فترة من الرسل تجاوز عددهم الثلاثمائة وخمسة عشر رسولا , اختارهم الله (تعالي) من بين مائة وعشرين ألف نبي , بعثوا كلهم بالإسلام , ودعوا إلي توحيد الله الخالق بغير شريك , ولا شبيه , ولا منازع , ولا صاحبة ولا ولد , وإن اختلفت تفاصيل التشريعات من عصر إلي آخر , إلا أن دعوتهم جميعا لأممهم كانت بلا أدني خلاف هي:

.. ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ..

(الأعراف:85,73,65,59, هود:84,61,50)

وقد أكمل ربنا (تبارك وتعالي) رسالته إلي خلقه وأتمها وختمها ببعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم , سيد الأولين والآخرين , سيدنا محمد بن عبدالله (صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين). ولكونها الرسالة الخاتمة فقد أنزل ربنا (تبارك وتعالي) البشري بها في الرسالات السابقة علي نزولها , وتعهد (جلت قدرته) بحفظها بنفس لغة وحيها (اللغة العربية) , فحفظت حرفا حرفا , وكلمة كلمة , علي مدي يزيد علي الأربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله (تعالي) الأرض ومن عليها.

وهذا الحفظ بذاته هو ضرب من الاعجاز الذي لم تتمتع به الكتب السماوية الأخري , وقد ترك حفظها لأقوامها فضيعوها بالكامل , أو عرضوها لقدر من التحريف الذي أخرجها عن إطارها الرباني وجعلها عاجزة عن هداية البشرية , وليس أدل علي ذلك من بحار الدم والخراب والدمار الذي تغرق فيه أرض فلسطين اليوم باسم موسي ويعقوب واسحاق وابراهيم (عليهم من الله السلام) وهم من ذلك براء , والذي يغرق أرض كل من العراق وأفغانستان باسم عيسي بن مريم (عليه السلام) , وهو برئ مما يرتكبون من جرائم وآثام وتعديات علي أبسط حقوق الانسان ... , والذي يغرق كثيرا من أهل الأرض المستضعفين باسم الدين , والدين من هؤلاء المعتدين براء ... !!

ولذلك جاء الخطاب في ختام سورة التين موجها إلي كل كافر ومشرك بصيغة من صيغ الاستفهام الاستنكاري التوبيخي التقريعي يقول فيها ربنا (تبارك وتعالي):

فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين *

(التين:8,7)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير