وإن كانت الصياغة القرآنية في مطلع سورة التين واضحة الدلالة علي الثمرتين اللتين تؤكلان باسم التين والزيتون , إلا أن ذلك لاينفي الإشارة إلي منابتهما من الأرض حتي يرتبط السياق بالقسم التالي بمكانين من أشرف أماكن الأرض , وفيها مكة المكرمة أشرفها علي الإطلاق.
وبعد القسم بكل من التين , والزيتون , وطور سينين , والبلد الأمين يأتي جواب القسم بالأمر المقسم عليه وذلك بقول الحق (تبارك وتعالي):
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون *
(التين:4 ــ 6)
ثم ختمت السورة الكريمة باستفهام استنكاري , توبيخي , تقريعي لكل كافر ومشرك وظالم وضال عن الحق يقول فيه ربنا (تبارك وتعالي):
فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين * (التين:8,7)
ولا نملك هنا إلا أن نقول: بلي , وأنا علي ذلك من الشاهدين كما علمنا خاتم الأنبياء والمرسلين (صلي الله عليه وسلم).
من أسس العقيدة في سورة التين
(1) أن الله (تعالي) خلق الإنسان في أحسن تقويم , ثم يرد الكفار والمشركين والظلمة الطاغين المتجبرين علي الخلق , والعصاة الضالين المضلين المفسدين في الأرض إلي أسفل سافلين في الدنيا بضعفهم وهزالهم وأمراضهم عند الكبر خاصة عندما يردون إلي أرذل العمر , وفي الآخرة عندما يدعون إلي الدرك الأسفل من النار دعا , أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيكرمهم الله (تعالي) في الدنيا برعايته وعنايته وفضله وكرمه وجوده ومنه وعطائه وإحسانه , ورحمته , وفي الآخرة بإدخالهم في نعيم جناته ورضوانه , وبإعطائهم أجورهم كاملة غير منقوصة , ولا ممنونة.
(2) أن الدين الوحيد الذي يرتضيه ربنا (تبارك وتعالي) من عباده هو الاسلام الذي أنزله ربنا (تقدست أسماؤه) علي فترة من الرسل , ثم أكمله وأتمه وحفظه بنفس لغة وحيه (اللغة العربية) في رسالته الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم والرسول الخاتم (عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم).
(3) أن الإيمان الصادق يستتبع العمل الصالح.
(4) أن الذي يكذب بالدين الخاتم مطرود من رحمة رب العالمين , محكوم عليه بالشقاء في الدنيا والآخرة , وإن كثر ماله وجاهه وسلطانه.
(5) أن الله (تعالي) هو أحكم الحاكمين.
من الإشارات الكونية في سورة التين
(1) القسم بكل من التين والزيتون إشارة إلي ما فيهما من قيمة غذائية كبيرة وتكامل في المحتوي كغذاء للإنسان. وإشارة كذلك إلي بركة منابتهما الأصلية وهي من الأماكن المقدسة في الإسلام , منذ خلق الله السموات والأرض.
(2) القسم بطور سينين وهو الجبل المكسو بالخضرة الذي كلم الله (سبحانه وتعالي) عبده ونبيه ورسوله موسي بن عمران من جانبه , وهو بالقطع مكان مبارك.
(3) القسم بالبلد الأمين وهو مكة المكرمة , وحرمها الآمن , وبها الكعبة المشرفة , أول بيت وضع للناس والعلوم المكتسبة تثبت شرف المكان وتميزه علي جميع بقاع الأرض.
(4) الإشارة إلي خلق الإنسان في أحسن تقويم.
(5) الإشارة إلي إمكانية ارتداد الإنسان إلي أسفل سافلين في الدنيا والآخرة , وهو أشرف مخلوقات الله إذا كان مؤمنا صالحا , وأحقر هذه المخلوقات وأبغضها إلي الله إذا كان كافرا أو مشركا أو ظالما متجبرا , أوفاسقا فاجرا , والعلوم السلوكية تثبت هذا الارتداد الدنيوي إلي أسفل سافلين عند كثير من البشر في أيامنا هذه.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة , ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي القسم الذي جاء بالآيات الثلاث الأولي من هذه السورة المباركة , ولكن قبل البدء في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآيات الثلاث.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله (تعالي)
والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين *
(التين:1 ــ 3)
* ذكر الطبري (رحمه الله) ما مختصره: (والتين والزيتون) قيل هو التين الذي يؤكل , والزيتون الذي يعصر , أقسم الله بهما , وجاء فيه اختلاف (وطور سينين) جبل معروف , قيل هو جبل موسي عليه السلام ومسجده (وهذا البلد الأمين) الآمن من أعدائه أن يحاربوا أهله أو يغزوهم , عني به مكة المكرمة ....
¥