تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلت: وقد تولج رحمة الله مضائق تضايق عنها أن تولجها الإبر وأتى بأشياء حسنة، وبأشياء غيرها أحسن منها، فأما تعليله تقديم ربيعة على مضر ففي غاية الحسن وهذان الاسمان لتلازمهما في الغالب صارا كاسم واحد فحسن فيهما ما ذكره، وأما ما ذكره في تقديم الجن على الإنس من شرف الجن فمستدرك عليه، فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة قد ذكرناها في غير هذا الموضع. وأما قوله: إن الملائكة منهم أو هم أشرف. فالمقدمتان ممنوعتان، أما الأول فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خلقوا منها هي النور، كما ثبت ذلك مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم. وأما الجان فمادتهم النار بنص القرآن ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغة ولا شرعاً ولا عقلاً، وأما المقدمة الثانية وهي كون الملائكة خيراً وأشرف من الإنس فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر والجمهور على تفضيل البشر. والذين فضلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفه ممن عداهم، بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا، إنه تقديم بالزمان لقوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم [الحجر: 26]. وأما تقديم الإنس على الجن في قوله: لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [الرحمن: 56]، فلحكمة أخرى سوى ما ذكره، وهو أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الاثبات فيرد النفي عليه، وعلم النفوس بطمث الإنس ونفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف. فجاء النفي على مقتضى ذلك. وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهم. وأما قوله: وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا فهذا يعرف سره من السياق، فإن هذا حكاية كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن كما قال تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً [الجن: 1] الآيات. وكان القرآن أول ما خوطب به الإنس ونزل على نبيهم وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن فجاء قول مؤمني الجن: وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا [الجن: 5] بتقديم الإنس لتقدمهم في الخطاب بالقرآن، وتقديمهم في التصديق والتكذيب. وفائدة ثالثة وهي أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقولهم بعد أن رجعوا إليهم بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس والجن يقولون على الله كذباً، فذكرهم الإنس هنا في التقديم أحسن في الدعوة وأبلغ في عدم التهمة، فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس والجن لما تبين لهم كذبهم فبدأتهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغرض والتهمة وأن لا يظن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنس عليهم، فإنهم أول ما أقروا بتقولهم الكذب على الله، وهذا من ألطف المعاني وأدقها، ومن تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحته.

وأما تقديم عاد على ثمود حيث وقع في القرآن فما ذكره من تقدمهم بالزمان فصحيح. وكذلك الظلمات والنور. وكذلك مثنى وبابه. وأما تقديم العزيز على الحكيم فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر، فما ذكره من المعنى صحيح، وإن كان من الحكمة وهي كمال العلم والإرادة المتضمنين اتساق صنعه وجريانه على أحسن الوجوه وأكملها. ووضعه الأشياء مواضعها وهو الظاهر من هذا الاسم، فيكون وجه التقديم أن العزة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم، وهو سبحانه الموصوف من كل صفة كمال بأكملها وأعظمها وغايتها، فتقدم وصف القدرة لأن متعلقه أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته.

وأما الحكمة فمتعلقها بالنظر والفكر والاعتبار غالباً وكانت متأخرة عن متعلق القدرة. ووجه ثان أن النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه من الحكم والمعاني. ووجه ثالث أن الحكمة غاية الفعل، فهي متأخرة عنه تأخر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلق بإيجاده. والحكمة تتعلق بغايته فقدم الوسيلة على الغاية، لأنها أسبق في الترتيب الخارجي.

وأما قوله تعالى: يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة: 222]، ففيه معنى آخر سوى ما ذكره. وهو أن الطهر طهران طهر بالماء من الأحداث والنجاسات وطهر بالتوبة من الشرك والمعاصي، وهذا الطهور أصل لطهور الماء وطهور الماء لا ينفع بدونه، بل هو مكمل له معد مهيىء بحصوله فكان أولى بالتقديم، لأن العبد أول ما يدخل في الإسلام فقد تطهر بالتوبة من الشرك ثم يتطهر بالماء من الحدث. وأما قوله: كل أفاك أثيم [الجاثية: 7]، فالإفك هو الكذب وهو في القول والإثم هو الفجور وهو في الفعل. والكذب يدعو إلى الفجور كما في الحديث الصحيح. أن الكذب يدعو إلى الفجور، وأن الفجور يدعو إلى النار، فالذي قاله صحيح. وأما كل معتد أثيم ففيه معنى ثاني غير ما ذكره وهو أن العدوان مجاوزة الحد الذي حد للعبد فهو ظلم في القدر والوصف. وأما الإثم فهو محرم الجنس ومن تعاطى تعدى الحدود تخطى إلى الجنس الآخر وهو الإثم، ومعنى ثالث وهو أن المعتدي الظالم لعباد الله عدواناً عليهم، والأثيم الظالم لنفسه بالفجور فكان تقديمه هنا على الأثيم أولى، لأنه في سياق ذمه والنهي عن طاعته. فس كان معتدياً على العباد ظالماً لهم فهو أحرى بأن لا تطيعه وتوافقه. وفيه معنى رابع وهو أنه قدمه على الأثيم ليقترن بما قبله وهو وصف المنع للخير، فوصفه بأنه لا خير فيه للناس وأنه مع ذلك معتد عليهم، فهو متأخر عن المناع لأنه يمنع خيره أولاً، ثم يعتدي عليهم ثانياً، ولهذا يحمد الناس من يوجد لهم الراحة ويكف عنهم الأذى وهذا هو حقيقة التصوف وهذا لا راحة يوجدها ولا أذى يكفه.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير